+ A
A -
عندما تحدثت في مقال سابق عن الحوار الإيراني العربي المختلف، وأني سأفرد مقالا خاصا له، فقد كان ذلك التخصيص والتأني، لأجل أن هذا الحوار يختلف عن سياقات الحوارات الأخرى، بين الشرق المسلم وبين الغرب، وبين التيارات المذهبية والفكرية، فالعلاقة مع إيران وجودية جغرافية حتمية، والتباس سياسي وثقافي قديم، لكني ركزت على بعدين أساسيين في هذا الحوار، رابطنا الشرقي المسلم مع إيران، وعلاقتنا ضمن الجغرافيا الاجتماعية، للشعب العربي في ساحل الخليج العربي من العراق إلى عمان.
وحيث فرزنا في المرة السابقة الحوار السياسي الاستراتيجي، لكونه يقوم على معادلة دول ونفوذ وبطاقات مصالح، لا تتوفر اليوم في الجانب العربي، فيما تتصاعد فرص طهران لتتمكن من نفوذها السياسي والعسكري الطارئ والقديم، ساهم فيه القرار الأحمق للأزمة الخليجية، وتحولت تركيا لصالح تحالف نوعي مع طهران، فإننا في ساحة الفكر لنا معايير أخرى، لا يمكن أن تخضع لموازين الاشتباك.
وإلا خسرنا ما تبقى من روح مصالح مشتركة لشعبينا، وخاصة في ظل الموقف العربي الثابت، من وضع إقليم الأحواز العربي، وحق شعبه في حقوقهم السياسية وفيدراليتهم المطلقة، لو قرروا تأجيل حق تقرير المصير.
إن فرزنا لهذه الملفات، هو محاولة لوضع جدول أو تحديد عنوان لماهية الحوار الفكري العربي الإيراني، وهو حوار حضاري بنزعة إسلامية، لا علاقة لها بأنظمة الحكم، وتبتعد عن المشروع الطائفي للشيعية السياسية التي تبنتها الثورة الإيرانية، والمشروع الطائفي الوهابي، الذي تبنته الدولة السعودية، والابتعاد عن اللغة التي أفرزها المشروعين شرط أساسي، فقد اُتخم الناس من هذا الضخ الكريه لكلتا الدولتين الطائفتين.
لكن ما تحتاج إيران فهمه، هو أن هناك مساحة قبول وتداخل وأفكار مشتركة، بين الشعبين العربي والإيراني، وجزء منه قد صنع فكرا مناوئا لكلتا السياستين، لكنه عمل أخلاقي وسياسي اجتماعي مهم، أن تترك له المساحة للتحاور، وعدم الإلزام بتمثيل أطرافه من جهات حكومية، وإنما ترك مساحة هذه الجسور المهمة بين الشعبين والأفق الإنساني الحضاري، ومفهوم إحياء قيم العدالة والتنوير، التي تمتلكها حضارة الشرق المسلم، بين العرب والإيرانيين تحديداً، واستبدال لغة الصراع القومي والعنصري، بلغة الفكر والتفاهم الفلسفي.
وأين يمكن أن نحرر لأنفسنا وللعالم، منظومة أخلاق وأفكار، تساعد إنسان الشرق على الدخول في عالم الجدل الحضاري والتميز فيه، بعمق تاريخه القديم وفكرته الإسلامية وخصوصيته الشرقية، ذات الانفتاح العالمي، فتجتمع حركة الثقافة من الجانبين، دون توظيف سياسي لتعيد أولاً لغة الخطاب المطلوبة بيننا.
ثم فهم أزمة العدالة والأخلاق في الشرق، وأزمة الفراغ في فكر الإنسان والتيه، الذي أفرزته الآلة الغربية الحديثة واضطهادها لعالم الجنوب، لكن من خلال الاعتراف بما نجحت فيه مسيرة التنوير الغربي، والبناء التكاملي الحضاري، الذي يجمع العالم ويُنقذ الأمم الكادحة، على الأقل كقيم ثقافية يُبشر بها للعالم الجديد.
إن تحديدي هنا هل تقبل طهران، ليس انحيازاً ولا تغييبا لموقف الأنظمة العربية، وإنما لمعرفتي بأن الحالة الثقافية العربية اليوم، تضم عدداً من المستقلين استقروا في المهجر، أو المنفى، وأنهم على استعداد للدخول، في حوار مباشر كون أنه حوار فكري ثقافي، وليس مواسم للدولة الإيرانية للترويج لعلاقات عامة لمشاريعها.
وهم لا ينتظرون مطلقا موقف السلطات القمعية العربية، لكنهم ينتظرون موقف إيران، من السماح لكل الطيف الفكري الإيراني، بما فيه التيارات الثقافية غير المتفقة مع سياسات الجمهورية مؤخراً، ولا يمنع ذلك من مشاركة من هم فعلاً، ذوو نزعة إصلاحية فكرية في مؤسسات إيران، لكنهم يؤمنون بالطريق الثالث.
وكانت هناك محاولات في هذا التوجه، قادها الأخ د. محمد حامد الأحمري، مدير مركز العلاقات العربية الدولية في الدوحة، ربما اليوم تحتاج إلى إعادة جدولة وتنظيم، لتبدأ بإطار جديد، لكن ما لم تؤمن الدولة الإيرانية بمساحة الحرية لهذا الفكر، فلن نستطيع أن ننجز فيه شيئاً وسيفشل كما فشل ما قبله.
بقلم: مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
10/03/2019
2785