+ A
A -

ماذا يجري في هذا العالم أو هذا الكوكب وله؟، نراه وقد انفتحت شهيته للحروب والقلاقل والنزاعات، وراح لا يكترث بسفك الدماء وانتشار الأوبئة والمجاعات، ولا يلقي بالا لما يهدد الاقتصاد من جمود، ويصيب التجارة من ركود، وكأن الحرب بين روسيا وأوكرانيا لم تكْفِ لخلق الأزمات، أو الاقتتال في السودان لا يفاقم في أوصال هذا البلد الشقيق المجاعات.

لست هنا بصد الحديث عن المشهد العسكري أو السياسي، وإنما عن الوضع الاقتصادي الدولي وتداعياته، وكذلك وضع الاقتصاد الإقليمي، وبالذات في منطقتنا الشرق أوسطية التي وصفها أمين عام الأمم المتحدة السيد غوتيريش في كلمته الخميس الماضي بأنها على حافة الهاوية، كونها تشهد منذ فترة أحداثا دراماتيكية، وتوترات جيوسياسية، آخرها الهجوم الإسرائيلي على إيران ليل الخميس/ ‏الجمعة ردا على هجوم إيران المباشر من أرضها إلى داخل العمق الإسرائيلي، بعيدا عن دور الوكلاء، ردا على غارة إسرائيلية استهدفت القنصلية الإيرانية في سوريا فأوقعت عددا من الضحايا، أي أن الهجوم بالهجوم والبادئ أظلم، وهكذا وُضعت المنطقة أمام سيناريوهات مكتملة لأحداث جسام محتملة، وإن كانت بنسب متفاوتة في وجهات النظر بين المحللين.

والواقع أن تداعيات الحروب ومآسيها لم تقتصر على أطرافها وداعميها، ولكنها تمتد إلى دول ومجتمعات لا ناقة لهم فيها ولا جمل، وقد يستغرب البعض لو قلت إن إسرائيل لن تتضرر اقتصاديا أو في أسوأ أحوالها ستكون الأقل ضررا؛ لأن أميركا سوف تعوضها عن خسائر الحرب بأكثر مما تتمنى، فأي نمو اقتصادي يمكن أن يشهده العالم، وأي انتعاش تجاري يمكن أن نأمله، بينما نرى السفن التجارية التي تمخر عباب المياه في البحر الأحمر ومضيق باب المندب ومضيق هرمز والخليج العربي وخليج عدن وخليج عُمان، تتعرض لخطر الخطف والهجوم بالصواريخ والمسيرات، يضاف إلى هذا توقف حركة الطيران المدني ونحن على أبواب الصيف، موسم الذروة السياحية، فضلا عن عزوف طائرات الشحن عن الإقلاع لتبقى رابضة في مطاراتها، خوفا من صاروخ طائش في الجو يصيب إحداها فيزداد الطين بلة.

العجيب أن الهجوم على السفن يستهدف تلك التي تحمل الغذاء والدواء والكساء، ومعدات الصناعة وأسمدة الزراعة، والنفط والغاز، ولا يتجه ناحية السفن الحربية التي تحمل على ظهورها عتاد الموت، وتنقل آلات القتل والتدمير، إنها حقا لمفارقة عجيبة تثير التساؤلات.

منطقتنا العربية لا تضاهيها منطقة أخرى في المزايا الإيجابية بالنسبة للتجارة الدولية والاقتصاد العالمي، فإذا ما كانت ممراتها البحرية آمنة ازدهر الاقتصاد وانتعشت التجارة على مستوى العالم، إذ يمر من خلالها حوالي 65 % من حجم التجارة العالمية، وما تبقى 35% موزع بين بقية مناطق العالم، ويكفينا الاستدلال بالتقرير الصادر عن أمانة مجلس التعاون الخليجي العام الماضي ويكشف أن دول المجلس تحتل المرتبة الأولى عالميا في إنتاج النفط الخام والأولى عالميا في احتياطي الغاز، ومما لا شك فيه أن اتساع نطاق الصراع والتصعيد في الشرق الأوسط سوف يؤدي إلى تعطيل الشحن على نطاق أوسع مما هو متوقع، ودفع أسعار الطاقة إلى الارتفاع إذا ما تعطّل مرور السفن الناقلة للنفط والغاز من منطقتنا الخليجية والشرق إلى بقية دول آسيا وأوروبا والأميركتين، فها هي شركة Xeneta المتخصصة في بيانات الشحن البحري والجوي تكشف في تقرير لها أن حوالي 90% من سعة سفن الحاويات المعتادة التي تمر عبر البحر الأحمر وقناة السويس قد تم توجيهها إلى طريق رأس الرجاء الصالح، و25% من ناقلات البضائع الجافة مثل الحبوب والإسمنت، وأيضا 25% من ناقلات النفط والغاز الطبيعي اتخذت نفس الخطوة، وهذا يزيد زمن رحلة السفن النموذجية من الشرق إلى الغرب علاوة على الزمن الذي كانت تستغرقه عبر قناة السويس بمقدار 18 يوما، ولسفن الحاويات 20 يومًا، ولناقلات البضائع الضخمة 25 يوما، وللناقلات البطيئة 30 يوما، كما أن أصحاب شركات ماركات الأزياء والعطور في أوروبا يفكرون في نقل خطوط ملابسهم جوًا، بدلا من نقلها بحرا، لكن المشكلة التي تمنعهم حتى الآن هي زيادة التكاليف عن المعتاد بقيمـة تتراوح بين 15 إلى 20 ضعفا.

وللمزيد من توضيح الحجم الحقيقي للمشكلة التي تستدعي «فزعة» عالمية لمواجهتها نستعرض الأرقام التي قدرها صندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمة ومنظمة التعاون والتنمية الاقتصادية والشركات المتخصصة في تحليل البيانات، فجميعها أكدت أن إضافة آلاف من الأميال بالتحول إلى طريق رأس الرجاء الصالح يرفع تكاليف الوقود والتأمين ورسوم الاستئجار وفواتير الأجور والمرتبات، وتُكلِّف شركات النقل العملاقة مثل ميرسك وهاباغ لويد مليون دولار إضافية لكل سفينة للقيام برحلة الذهاب ومثله لرحلة الإياب، وعليه بلغت تكاليف الشحن العالمية للحاوية النموذجية التي طولها 40 قدمًا 3786 دولارًا الأسبوع، بزيادة 90% عن نفس الوقت من العام الماضي، وفقًا لـ «مؤشر دروري العالمي للحاويات،»وبالنسبة للحاوية ذات الحجم نفسه التي تسافر من شنغهاي في الصين إلى روتردام في هولندا، فقد قفزت تكلفتها بنسبة 158% مقارنة بالعام الماضي لتصل إلى 4426 دولارًا، ومما لا شك فيه ان التجار سوف يمررون هذه الزيادات إلى كاهل المستهلك.

إذن من أجل تعافي الاقتصاد وازدهار التجارة فإن دول الشرق الأوسط جميعها مدعوة لاتخاذ خطوات جادة للتواصل مع بقية دول العالم لإيجاد حل جذري للقضية الفلسطينية لأنها جوهر الصراع في العالم الآن، ووضع حد للتعنت الإسرائيلي وفرض قيام الدولة الفلسطينية ذات السيادة الكاملة، وإلا ستظل الصراعات قائمة وشواظ من نار الحروب سوف تطول الجميع إذا انجرفت المنطقة لمزيد من التصعيد.

وختاما أستميح القارئ الكريم عذرا عن كون المقال حافلا بالأرقام التي تفرضها الضرورة لأهمية الوقوف على حجم المشكلة.

بقلم: د. بثينة حسن الأنصاري خبيرة التخطيط الاستراتيجي والتنمية البشرية وحوكمة المؤسسات

copy short url   نسخ
21/04/2024
30