+ A
A -
م. أنس معابرة

نعود للحديث عن موضوع الثقافة المالية بعد توقفنا خلال شهر رمضان الكريم. لو افتراضنا تشابه الظروف المادية والمعيشية لشخصين في بداية مسيرتهما واستقلالهما المادي، كلاهما يمتلك درجة محددة من الثقافة المالية، ويقوم باتباع سياسية مالية خاصة به، هل تتوقع أن تتشابه أوضاعهم المالية، بعد عقد أو عقدين من الزمان؟

في الحقيقة يبدو ذلك مستحيلاً، فالسياسات المالية التي نتبعها منذ بداية مسيرتنا لها دور كبير في تحديد مستقبلنا الماليّ، ونجاح ذلك يعود إلى ضرورة امتلاكنا مقداراً كبيراً من الثقافة المالية، والتي تغيب عن مناهجنا التعليمية، ولكي تصل اليها؛ لا بد من البحث عنها بجهود مضنية، فلن يقدمها لك أحدهم على طبق من ذهب.

تعتبر الرفاهية واحدة من أهم وأكبر الأهداف التي نسعى باتجاهها طوال الوقت، ونبذل الكثير من الجهد في المدارس والجامعات والشركات بغرض الوصول إلى الرفاهية يوماً ما، ولكن ما هو الوقت الأمثل للعيش برفاهية؟ وهل هنالك رابط بين الرفاهية المبكرة والشقاء المستقبلي؟

لو درسنا أوضاع أحد الشخصين المتشابهين في الأوضاع المالية، ووجدناه يتبع سياسة «الرفاهية المبكرة»، ستجد أنه يعمد إلى الزواج في سن مبكرة، وما إن يستلم راتبه الأول من الشركة أو المؤسسة التي يعمل بها؛ حتى يبادر إلى البنك لشراء سيارة بنظام الأقساط، أو أن يشتري منزلاً بنظام الرهن العقاري والايجار المنتهي بالتملك، أو من خلال القروض التي تغرقنا بها البنوك.

يبدو أن صاحبنا يعيش في رفاهية جيدة، فلديه سيارة ومنزل وربما يسافر أحياناً للاصطياف والاستمتاع، ولكن لو درسنا وضعه المالي؛ لوجدنا أنه يحتوي على مجموعة كبيرة من الالتزامات الشهرية الواجب سدادها مع نهاية كل شهر، بينما تخلو قائمة اصوله من أية بند، والدخل الوحيد له هو الراتب فقط.

لذلك تراه يطالب كل فترة بعلاوة، أو يبحث عن وظيفة جديدة براتب أعلى، وما إن يحصل عليه حتى يبادر بإضافة التزام إلى التزاماته، ليعود إلى نقطة الصفر في نهاية كل شهر.

سيعاني هذا الشخص في مراحل متقدمة من حياته بسبب الفقر المدقع، وحاجته إلى مزيد من الاقتراض، وسيبيع السيارة والمنزل لإيجاد ثمن العلاج، أو حتى لتسيير أمور المعيشة بعد الإحالة على التقاعد، وعجز الراتب التقاعدي عن الايفاء بالالتزامات التي وضعها على نفسه.

في المقابل؛ قام الشخص الثاني باتباع سياسة «الرفاهية المتأخرة»، حيث تجنب إضافة أية التزام إلى قائمة التزاماته، وعمل على استثمار جميع دخله على شكل أصول كعقارات وسندات وموارد للدخل بدل أن تكون مستنزفاً له.

بعد عقدين من الزمان؛ كان لديه من الدخل ما يفوق حاجته، بل يعمل على تنمية اصوله، واستخدام الباقي في تحقيق الرفاهية التي يحلم بها كل إنسان.

فلا مانع لديه من شراء سيارة أو طيارة أو يخت، بل لا مانع لديه من السفر في جولة حول العالم، بعد أن أسس اصولاً واستثمارات قادرة على ادرار دخل يكفي حاجته ويكفيه شر العوز.

كما أنه لن يخشى مرحلة الشيخوخة، فلديه من الدخل ما يكفي لتأمين علاج راق له، كما أنه قادر على ارتياد الأندية وممارسة الحميات الغذائية والرياضة لخلو برنامجه من العمل لثمان ساعات يومياً كموظف بانتظار الراتب مع نهاية كل شهر، تماماً كما نشاهد الأجانب حين يزورون دولنا مع تقدمهم في السن، والقليل منهم من يفعل ذلك في سن مبكرة.

إن تفصيلاً بسيطاً في الثقافة المالية كموضوع الرفاهية وتبكيرها، أو تأخيرها قد يحدث تغييراً كبيراً في حياتنا، ويكون له دور في شكل حياتنا مع تقدمنا في السن.

copy short url   نسخ
20/04/2024
5