+ A
A -
جريدة الوطن

إذْ لم تضع الحرب أوزارها كما توقع الكثيرون في الأيام الأولى لاندلاع أعنف الحروب الأفريقية وأقساها، يبدو السودان أكثر بؤسًا بعد عام من الحرب، لم يتبقَّ منه سوى أطلال وطن، ورائحة دم وبارود، وأنقاض مجتمع تناثر كفراش مبثوث، وباتت البلاد على شفير الهاوية، بينما لا يتوقع أن تصمت المدافع قريبًا.

حسب إحصاءات حكومية رسمية وأممية ودولية، فقد فاق عدد ضحايا الحرب 17 ألف قتيل من المدنيين، ونزح جراءها ما يزيد على 12 مليون شخص، من ولايات الخرطوم والجزيرة وولايات دارفور الخمس، ومن أجزاء بولايات شمال كردفان، وغرب وجنوب كردفان، والنيل الأبيض، بينما فرّ ما يقارب 1.9 مليون سوداني إلى مصر، وجنوب السودان، وتشاد، وإثيوبيا، وإريتريا، وأوغندا، وليبيا، وكينيا، ودول الخليج العربي.

هذه الحرب التي بدأت قبل 365 يومًا كانت إرهاصاتها شاخصة للأعين قبل انطلاق شرارتها، وها نحن اليوم إزاء فتات دولة انهارت مؤسساتها، وشُرد مواطنوها، وضاعت طمأنينتها، وضُيعت سلامة ترابها، واخترقت حتى النخاع،، وإلى جانب خسائرها البشرية (قتلًا، وإصابة، واعتداء، وتهجيرًا) فقد تهدم أكثر من 17 ألفًا من مبانيها الحكومية والخدمية، ودُمر أو نهب ما يفوق الـ85 % من منازل المواطنين في العاصمة، وولاية الجزيرة، وولايات دارفور، وأكثر من 120 بنكًا في تلك الولايات.

ويقول مراقبون؛ إن السودان يحتاج في حال توقف القتال، إلى معجزة تعيد إليه تشغيل المرافق الحيوية والخدمات الأساسية كالكهرباء والمياه، والصحة، والتعليم، والطرق، والمطارات، خلال عامين من العمل المكثف، فقد طال الدمار الواسع 75 % من المستشفيات والخدمات الطبية بما يكلف 15 مليار دولار، كما صرح وزير الصحة مؤخرًا، وخسر قطاع الطاقة ما يقارب الـ 12 مليار دولار، وبلغت خسائر البنية التحتية في 8 أشهر من الحرب نحو 60 مليار دولار، حسب تقديرات وزير المالية. ويجري إحصاء خسائر قطاعي التعليم العام والعالي اللذين توقفت مؤسساتهما بالكامل عن العمل، فنهبت الجامعات، وتحول كثير من المدارس في الولايات الآمنة إلى مراكز لإيواء النازحين، ودُمر نحو 65 % من مدارس الخرطوم.

لم تنجُ قطاعات الزراعة والثروة الحيوانية والتعدين من ذلك، فقد أدى توقف الإنتاج إلى تراجع الناتج الإجمالي القومي من 34 مليار دولار قبل الحرب إلى بضعة مليارات بعد عام من اندلاعها،

انهار قطاع الصناعة أيضًا بشكل كامل في أنحاء البلاد، ودُمِّر وتوقف 9 آلاف مصنع في ولايتي الخرطوم والجزيرة وحدهما، وكانت مساهمة الصناعة في الناتج الإجمالي المحلي 21 %، بينما يسهم القطاع الزراعي بنسبة 32.7 %.

على صعيد الدولة ومؤسساتها، توقف أداء دواوين الحكومة ومؤسساتها وأجهزتها إلا قليلًا، ولا توجد الآن حكومة فعلية تمارس صلاحياتها وسلطاتها بالكامل، وخرجت خمس ولايات من سيطرة الدولة، وهي؛ غرب ووسط وجنوب وشرق دارفور، وولاية الجزيرة، وتقطعت أوصال الخدمة العامة بالبلاد، ولم تعد الوزارات في الحكومة الاتحادية ذات تواصل مع الولايات الأخرى، ولا ينساب نسق العمل الوظيفي للدولة في كثير من أرجاء السودان؛ لغياب جهاز الخدمة العامة، والشرطة، والقضاء والنيابة العامة، وإدارات التعليم، والصحة، والجمارك، والضرائب، وغيرها.

كما توقفت كل مطارات السودان عن العمل، وأغلق المجال الجوي السوداني، ولا تعمل إلا مطارات بورتسودان وكسلا ومروي ودنقلا والدمازين وكادوقلي، فيما واجه السودانيون شبح العزلة عن العالم.

هذه المؤشرات حول حجم الدمار الذي خلفته الحرب في عامها الذي انصرم، تترافق معها آثار الحرب على المجتمع، وهي الأوخم عاقبة، والأشدّ فداحة، فلأول مرة في تاريخ السودان، ترتفع بشكل علني دعوات الاصطفاف القبلية والمناطقية، وتتعالى نيران العصبية القبلية، وتسود لوثة خطاب الكراهية بشكل يقشّعر له البدن، ويتلطخ وجه السودان وصورة تماسكه الاجتماعي الزاهية بخبال عنصري لا سابق له.

وما تجرأ السودانيون على التنابز بالولايات الدنيا وتعايروا بالقبائل والانتماءات العرقية مثلما يفعلون الآن، والسبب هو الخطاب العنصري الطائش الذي انتهجته مليشيا الدعم السريع لتبرير تمردها على الدولة،

المهم في هذا الحديث؛ أن الحرب في السودان أنتجت وضعًا مأساويًا على الصعيد الإنساني لا يمكن السكوت عنه من تشريد وتهجير ونقص حاد في الغذاء وشبح المجاعة المخيم على البلاد، كما أفرزت تجاوزات لا حصر لها في حقوق الإنسان، بلغت فيها الاعتداءات على المرأة شأوًا لم تبلغه حروب أخرى في الإقليم، ويشهد المجتمع السوداني في هذه الحرب انقسامًا أفقيًا ورأسيًا لا يمكن تصور تداعياته في الحاضر ولا في المستقبل، ستكون له ظلال معتمة على وحدة البلاد وتماسكها.

فبينما يرجو السودانيون توقف الحرب وعودتهم لبلادهم ولحياتهم الطبيعية، فإن المخاوف تتراءى أمامهم خاصة ما يجري وراء الكواليس في الإقليم والجوار وبعض القوى الدولية؛ لإطالة أمد الحرب، وعدم وجود رغبة إقليمية ودولية في توليد الحلول المناسبة حتى تضع الحرب أوزارَها، فالتدخلات السالبة والدعم الخارجي للتمرد، ومدّه بالعتاد الحربي والسلاح وتسخير وسائل إعلامية داعمة له وتبني حملة سياسية وحملة علاقات عامة لصالحه، ستجعل هذه الحرب تستعر بلا هوادة، فهناك من يلقي بالحطب ويصبّ الزيت على نارها كل يوم.الصادق الرزيقي

كاتب وصحفي سودانيالجزيرة نت

copy short url   نسخ
17/04/2024
5