علو الهمة خلق رفيع وغاية نبيلة، تهفو إليه الفطر القويمة والنفوس الكريمة، وإليه يرجع مجموعة من الظواهر الخُلقية، كالجد في الأمور، والترفع عن الصغائر والدنايا، والطموح والمسارعة إلى المعالي، وقد قال الله تعالى: «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَأوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ» (آل عمران:133). ولسلفنا الصالح رضوان الله عليهم الأقوال والمواقف المأثورة في علو الهمة في جميع المجالات..
روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «لا تصغرنَّ همتكم، فإني لم أرَ أقعد عن المكرمات من صغر الهمم». وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: «همم الرجال تزيل الجبال.. لو تعلقت همة أحدكم بالثريا لنالها». وقال مالك: «عليك بمعالي الأمور وكرائمها، واتقِ رذائلها وما سفَّ منها، فإنَّ الله تعالى يحبُّ معالي الأمور، ويكره سفسافها». وقال ابن القيم: «فمن علت همته، وخشعت نفسه، اتصف بكلِّ خلق جميل. ومن دنت همته، وطغت نفسه، اتصف بكلِّ خلق رذيل». وقال الراغب الأصفهاني: «والكبير الهمة على الإطلاق: هو من لا يرضى بالهمم الحيوانية قدر وسعه، فلا يصير عبد رعاية بطنه، وفرجه، بل يجتهد أن يتخصص بمكارم الشريعة».
وقال الإمام أحمد: «ما كتبت حديثاً عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا وقد عملت به، حتى مرّ بي الحديث: (أن النبي صلى الله عليه وسلم احتجم وأعطى أبا طيبة الحجام ديناراً) فاحتجمتُ وأعطيتُ الحجّام دينارا». وعن أبي القاسم بن عقيل: أن أبا جعفر الطبري قال لأصحابه: «هل تنشطون لتاريخ العالم من آدم إلى وقتنا؟ قالوا: كم قدره؟ فذكر نحو ثلاثين ألف ورقة، فقالوا: هذا مما تفنى الأعمار قبل تمامه! فقال: إنا لله، ماتت الهمم»، فاختصر ذلك في نحو ثلاثة آلاف ورقة، ولما أن أراد أن يملي التفسير قال لهم نحوا من ذلك، ثم أملاه على نحو من قدر التاريخ.
واستيقظ أبو يزيد البسطامي ليلة وهو صبي، فإذا أبوه يصلي، فقال لأبيه: «يا أبت، علمني كيف أتطهّر وأفعل مثل فعلك وأصلي معك، فقال له أبوه: يا بنيّ، ارقد فإنك صغير بعد، فقال له: يا أبت، إذا كان يوم القيامة، حين يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم، أأقول لربي: إني طلبت من أبي فلم يعلمني؟ فقال له: لا والله يا بنيّ، وعلّمه، فكان يصلي معه».
لقد فقه سلفنا الصالحون عن الله أمره، وتدبروا في حقيقة الدنيا، ومصيرها إلى الآخرة، وارتفعت همتهم على السفاسف، فلا تراهم إلا صوَّامين قوامين، باكين خاشعين، ولقد حفلت تراجمهم بأخبار زاخرة، تشير بعلو همتهم في التوبة والاستقامة وفي كل خير.. قال الحسن: «من نافسك في دينك فنافسه، ومن نافسك في دنياه فألقها في نحره». وقال وُهيب بن الورد: «إن استطعت أن لا يسبقك إلى الله أحد فافعل».