+ A
A -


قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه:
ليسَ الفطِنُ من عرفَ الخير من الشرَّ، وإنما الفَطِنُ من عرف خير الشَّرين!
لو كانت الحياة تضعنا دوماً في خيار بين الخير والشرّ لتفضلت علينا كثيراً، فخيار كهذا رفاهية ليست متاحة على الدوام! ولكنها في كثير من مواقفها تضعنا بين أمرين أحلاهما مرُّ!
واختيار خير الشّرين ليس مبدأً من مبادئ العقل فقط، وإنما مبدأ من مبادئ الشريعة أيضاً، وما استحسن العقل السليم رأياً إلا وكانت الشريعة قد سبقته إليه، فحين خرق الخضر سفينة الصيادين المساكين، استهجن موسى عليه السلام فعلته هذه، لأن الفطرة السوية ضد الشر مهما كان صغيراً، ولكن الخضر كان يختار خير الشرين، إما أن يخرقها وإما أن يبقيها سليمة فيسلبهم الملك إياها، وسفينة مثقوبة لأهلها تُصلح على الشاطئ فيما بعد، خير لهم من سفينة سليمة ومسلوبة عند الملك!
يروي صديق حسن خان - وهو أحد الفقهاء والمعاصرين وليس عمدة لندن الذي انتخب أخيراً- قال:
حكم أحد الملوك الظالمين بالإعدام على شيخ المملكة، فذهب إلى الملك شيخ آخر يشفع له، وقبل الملك شفاعته، ولكنه اشترط أن يقوم الشيخ الشافع بجلد المحكوم عليه بالإعدام مائة جلدة أمام الناس!
وضعه بين خيارين أحلاهما مر، وكان عليه أن يختار بين سمعته وبين دم الشيخ، فاختار أن يضحي بسمعته ويحقن دم الرجل، وبالفعل جلده أمام الناس، وما زال فيهم مذموماً، وقد كان بينه وبين الله نبيلاً!
وأخرج الذهبي في ترجمته لرجاء بن حيوة، ورجاء من فقهاء التابعين الأفذاذ، عاش في عهد سليمان بن عبد الملك، وكان سليمان يُجله ويقدره، وكان رجاء يعرف أن سليمان يستهين بالدماء، فيقتل في أي شبهة ترده! وحدث أن تكلم تلاميذ رجاء في حضرته عن ظلم سليمان، فسمعهم أحد الوشاة، وعرف رجاء أن هذا سيحملها إلى سليمان بن عبد الملك، وهكذا كان!
وعندما استدعى سليمان رجاءً وأنَّبه، أقسم رجاء أن هذا الكلام ما حدث في مجلسه، فما كان من سليمان إلا أن أمر بجلد الواشي أربعين جلدة لكذبه!
وفي اليوم التالي قال الواشي لرجاء: تكذب وأنت فقيه المسلمين؟
فقال له رجاء: أربعون جلدة في ظهرك ولا سيف سليمان في رقاب الناس!
ما أوردتُ هذه القصص ليس للمتعة بل للعبرة، ولننزلها منزل التطبيق في الحياة، إن وُضعنا بين أمرين أحلاهما مرّ، أحياناً إبقاء مشكلة على الشكل الذي هي عليه هو الحل المثالي لها، فالحلول الجذرية مؤلمة أحياناً، والمصلحة التي تتحقق في حلها أقل كثيراً من المفسدة التي تترتب على ذلك، لهذا كان دوماً درء المفاسد مقدم على جلب المصالح!
أحياناً يكون الطلاق حلاً وأحياناً يكون باباً لمشكلة أكبر!
وأحياناً يكون ترك عمل شيئاً حسناً، وأحياناً تكون الأشياء المترتبة على تركه أسوأ من البقاء فيه!
أحياناً قول كلمة قد يكون خيراً، وأحياناً قد يكون الصمت هو الخير الوحيد في هذا الموقف!
من تمام النضج أن نعرف أن الدنيا في مرحلة ما لا تغدو أسود وأبيضَ فقط، وخيراً وشراً فقط، هناك لون رمادي ليس له علاقة بالنفاق بقدر ما له علاقة بالفهم!
بقلم : أدهم الشرقاوي
copy short url   نسخ
11/06/2016
12543