+ A
A -
لغتُنا العربية كنز. لغتُنا العربية ثروة. لغتُنا العربية بحر من الجَمال، بحر كلَّما جَدَّدْتَ فيه الغوصَ والإبحارَ حَظِيتَ بما شِئْتَ وشاءَ لكَ (هو البحرُ) من لَآلِئ بِقَدْرِ ما تتذوَّقها أنتَ تَزداد تعطُّشاً إلى التنقيب فيها عن المزيد.
قرآنُنا الكريم نزل بلسان عربي، لذلك لا يختلف اثنان في أن حَفَظَةَ القرآن والمشتغلين على تفسيره وتَدَبُّرِ معانيه هم أكثر الناس حفاظاً على اللغة وإتقاناً لها.
في هذه اللغة العربية الزاهية بألوان الفتنة والتميُّز نجد شيئاً يُسَمَّى الجِنَاس. ما هو الجِناس؟ ليس هو أكثر من لَعِب بالكلمات ومعانيها.
الجناس جَرْس موسيقي قوي التأثير في المتلقي ينبع من عمق التشكيل اللفظي البديع الجمال. لِنَقُلْ في تعريف مُبَسَّطٍ إن الجِناسَ يتحقَّق عند تركيب كلمتين فيهما ائتلاف من حيث اللفظ (تشابُه ومُشاكَلة واتفاق واتحاد) واختلاف من حيث المعنى.
وإليك الأمثلة من الجناس، على أن نَتَقَيَّدَ بالتامّ منه في هذه المناسبة نظراً لما يغري باكتشافه من مواطن الجمال:
أولاً: من القرآن الكريم
المثال ((1)
قوله عزّ وجلّ: «وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ» (سورة: الروم، الآية: 55). قد يتبادر إلى ذهنك أن توظيف كلمة «ساعة» جاء مكرراً يحمل المعنى نفسه، لكن الحقيقةَ تقول إن هناك اختلافاً بَيِّناً. فـالساعة الأولى تُحِيل على يوم القيامة. أما الساعة الثانية، فالمقصود بها هي الساعة الزمنية (التي نِصْفُها ثلاثون دقيقة).
المثال ((2)
قوله سبحانه وتعالى: «يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَاِر يُقَلِّبُ اللهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ» (سورة النور، الآيتان 43، 44). فالأبصار الأولى مفردها بَصَر، وهو الرؤية. أما الأبصار الثانية، فهي النُّهَى. والنُّهَى: جمع نُهْيَة، العقل والحِكْمَة.
ثانياً: من الشعر
المثال ((1)
«طَرَقْتُ الْبَابَ حَتَّى كَلَّ مَتْنِي*** فَلَمَّا كَلَّ مَتْنِي كَلَّمَتْنِي»
نلاحظ جَلِيّاً أن الْجَرْسَ الصوتي الموسيقي للكلمة يظل هو نفسه الْمُكَوَّن من الحروف نفسها والترتيب نفسه، بينما اختلف المعنى. فـ«كَلَّ مَتْنِي» معناها: تَعبتُ. أما «كَلَّمَتْنِي» فهي تعني: تَحَدَّثَتْ إِلَيَّ، أَجَابَتْ واسْتَجَابَتْ لنِداء طَرْقِي. وهذا ما كان بعد أن تَصَرَّفَتِ الغائبةُ في البيتين بجَفاء مع الشاعر وهو يقصد بابَها، لكنها بعد أن انتبهت إلى تعبه وحسن اجتهاده سرعان ما غيرتْ موقفَها منه ومَدَّت إليه جسر الحوار والتواصل مجدَّدا.
المثال ((2)
«إذا مَلِك لم يكن ذا هِبَة ****فَدَعْهُ فَدَوْلَتُهُ ذَاهِبَة»
هنا مرة أخرى نحن على موعد مع نموذج واضح من الجِناس التام الذي جاءت الكلمتان المتشابهتان فيه كالتالي: «ذا هبة» الأولى أصلُها «ذو» الاسم الذي جاء في حالة النصب على صيغة «ذا» بمعنى «صَاحِب» + الاسم الثاني «هِبَة» الذي هو مصدر للفعل «وَهَبَ»، ومعنى الهبة العَطَاءُ. أما كلمة «ذاهبة» في الشطر الثاني فتفيد الزوال. والمعنى في الشاهد الشعري أن الحَاكِم الذي لا يُجْزِل العَطاء سرعان ما يتوارى حكمُه وتَزول دولتُه.
المثال ((3)
«إلى حتفي سَعَى قَدَمِي ***أَرَى قَدَمِي أَرَاقَ دَمِي»
فأما «سعى قَدَمي»، فمعناها ما رسمتُه وخطَّطْتُ له. وأما «أراقَ دمي»، فمعناها: أودى بي ودفع إلى هلاكي. هكذا يكون المقصود بالتركيب اللغوي أن الشاعر يعترف بأنه المسؤول عما جناه وانتهى إليه أمرُه، لأنه (الشاعر) هو السبب في ما عجَّل بنهايته نظرا لسوء تدبيره.
المثال ((4)
«فقالتْ لي أيا إسماعيل صبرا **** فَقُلْتُ لها أيا اسما عِيلَ صبري»
فالشاعر الذي يسمي نفسه هنا «إسماعيل» (الأولى) يمعن في إلحاحه وطلبه، بينما نجد المرأة التي يتوجه إليها (إسماعيل) بالخطاب واسمها (اسما) تستمهله وتسأله أن يتريَّثَ، لذلك كان من الطبيعي أن ينفذ صبرُه ويجيبها مُصَرِّحًا بقلة حيلته وهو ينادي باسمها (أيا اسما): عِيلَ صَبْري، بمعنى نَفَذَ صبري.
المثال ((5)
«وليت الحكمَ خمسا بعد خمس ***لعمري والصبا في العنفوان ***فلم تضع الأعادي قَدْرَ شَانِي ***ولا قالوا: فلان قَدْ رَشَانِي»
الشاهد هنا: «قَدْرَ شَانِي» (كلمتان: «قَدْر» بمعنى مقدار، و«شَانِي» بمعنى منزلتي ومكانتي) و«قَدْ رَشانِي» (كلمتان: «قَدْ» حرف تحقيق يتصل بالفعل الماضي، و«رَشانِي» بمعنى قَدَّمَ لي رَشْوَةً).
المثال (6)
«وأَرْضِهِمْ مَادُمْتَ فِي أَرْضِهِمْ»
فـهناك «أَرْضِهِمْ» الأولى، وهي فعل أمر لـ«أَرْضَى يُرْضِي»، بمعنى احْرِصْ على كَسْب رِضَاهم. أما «أَرْضِهِمْ» الثانية، فهي اسم يحيل على المكان.
المثال (7)
«لَكِ يَا مَنازِل في القلوب مَنازِل»
«منازل» الأولى مفردها «مَنْزِل»، ومعناها البيوت والمساكن. أما «منازل» الثانية، فهي جمع مَنْزِلَة، ومعناها المكانة إحالة على الأهمية وقوة الرابطة التي تربط الشاعرَ بها.
المثال (8)
«يا من سخطت على الدنيا لفرقته ***أساخط أنت عني اليوم أَمْ راضي ***أمرضتَ بالهجر قلبي الْمُسْتَهامَ فَما***عليك بالوصل لو داويت أَمْرَاضي»
الشاهد من بديع الجناس: «أَمْ راضِي» الأولى (وفيها «أَمْ»، وهو حرف عطف يفيد في معناه التسوية، إضافة إلى اسم الفاعل «راضي» وهو مَنْ وَقَعَ منه الرضى) و«أَمْراضي» الثانية (جمع مَرَض، وهو الداء الذي حَلَّ بالشاعر بعد الفراق الذي تسبَّبَ فيه موت الْمُفَارَق).
المثال (9)
«فَهِمْتُ كتابَك يا سيدي***فَهِمْتُ ولا عجب أن أهيمَا»
«فَهِمْتُ» الأولى فعل ماض متصل بالتاء المتحركة بمعنى: أَدْرَكْتُ واسْتَوْعَبْتُ وبلغتُ المقصود مما كَتَبْتَهُ لِي. أما «فَهِمْتُ» الثانية، ففيها حرف العطف (الفاء) الدال على الترتيب بدون مُهْلة (خلافا لحرف العطف «ثُمَّ» الدال على الترتيب مع مُهْلة أو فُسحة زمنية وامتداد) يليه تصريف الفعل «هَامَ» في الماضي متصلا بالتاء المتحركة (المتكلم)، والمعنى: بمجرد أن فهمْتُ ما كتَبْتَهُ لي بَلَغْتُ أنا مرتبة الهيام.
المثال (10)
«والمعدمون من الإبداع قد كثروا***وهُمْ قليلون إن عدّوا وإن حصروا***قوم لو انهم ارتاضوا لما قرضوا***أو أنهم شعروا بالنقص ما شعروا»
«شعروا» الأولى فعل ماض متصل بالضمير الغائب (هُمْ)، أي: أحسُّوا. أما «شعروا» الثانية، فمعناها: نظموا الشِّعْرَ.
المثال (11)
«مثل الغَزال نظرةً ولَفْتَةً ***مَن ذَا رآهُ مُقْبِلاً ولا افْتَتَن»
الكلمة الواردة في آخر الشطر الأول اسم منصوب «لَفْتَةً» بمعنى الحركة والإشارة (كيف تَلْتَفِتُ الْمُتَغَزَّل بها وتلفتُ انتباهَ الآخَرِ إليها). أما الكلمة الواردة في آخر الشطر الثاني، فهي فعل ماض (اِفْتَتَنَ يَفْتَتِنُ افْتِتانًا)، والمعنى أن الشاعر يتغزّل بصبية يصف لنا كيف أنها كلما التفتتْ فَتَنَت الآخرين وأَسَرَتْهم بحُسنها وجَمالها.
المثال (12)
«وسمَّيتُه يحيى لِيَحْيا ولم يكنْ ***إلى رَدِّ أمر الله فيه سبيل»
«يحيى» الأولى اسم علم. أما «يحيا» الثانية، فهي فعل مضارع بمعنى: تجري فيه دماء الحياة.
المثال (13)
«رأيتك تَكْويني بميْسَمِ مِنَّةٍ***كأنك كنتَ الأصل في يوم تكويني***فَدَعْنِي من المَنِّ الوخيم فَلُقْمَة***مِنَ العيش تَكُفيني إلى يَوْم تكفيني»
«تكويني» الأولى عبارة عن فعل مضارع متصل بضمير، إنه الفعل «كَوى» الذي تمّ تصريفه مع المخاطَب (أنتَ). أما «تكويني» الثانية، فهي اسم جاء مصدرا لفعل «كَوَّنَ»، بمعنى بداية الخلق. وكذلك «تَكْفيني» الأولى عبارة عن فعل مضارع متصل بضمير، هو الفعل «كَفى»، والمعنى بلوغُ القناعة. بينما «تكفيني» الثانية جاءت مصدرا للفعل «كَفَّنَ»، بمعنى أن لقمة تجعله يشبع ويقنع إلى أن يموت ويستره كَفَنُه.
المثال (14)
«يا من يضيع عمرَه متماديا في اللهو أَمْسِكْ***واعلمْ بأنك لا محالة ذاهب كذهاب أَمْسِك»
«أَمْسِكْ» الأولى فعل تمّ تصريفه في زمن الأمر من أمْسَكَ يُمْسِكُ إمْساكًا، بمعنى كَفَّ وتوقَّفَ عن تبذير أيام عمره في اللهو. أما «أَمْسِك» الثانية، فهي اسم يدل على اليوم الذي مضى (الأمس) وقد اتصلت به كاف الخطاب.
المثال (15)
«وكُنّا عظاما فَصِرْنا عِظاما»
فأما الواحدة منهما (عظاما)، فتعني جَمْعَ «عَظِيمٍ»، من العَظَمَة والرِفْعَة (عُلُوّ الشأن والمنزلة). وأما الأخرى (عظاما)، فتعني جَمْعَ «عَظْمٍ».خلاصة المعنى الصيرورة، وهنا نتحدث عن مسافة تفصل بين العنفوان والْهَرَم (العجز).
المثال (16)
«قُبورُنا تُبْنَى***ونحن ما تُبْنا»
«تُبْنَى» الأولى، من البِناء. أما «تُبْنا» الثانية، فهي من التوبة.
المثال (17)
«أعذب خلْق الله نطقًا وفَمًا ***إنْ لم يكنْ أحقّ بالحُسْن فَمَنْ»
«فمًا» الأولى اسم منصوب (الفَم). أما «فَمَنْ» الثانية، ففيها حرف العطف (الفاء) واسم الاستفهام (مَنْ؟). والمعنى أن الشاعر يمدح الغائب ويذكر محاسنَه.
المثال (18)
«رأيْتُ الناس قَدْ مَالُوا****إلى مَنْ عنده مالُ»
«مالوا» الأولى تصريف للفعل «مالَ» في الماضي مع جمع الغائب (هُمْ)، ومعناها انْضَمُّوا إلى/ رافَقُوا.. أما «مالُ» الثانية، فهو النقود. والقصد أن أكثر البشر بطبعهم يحبّون مرافقة وملازمة الأغنياء ولا يرحبون بصحبة الفقير.
المثال (19)
عَضَّنا الدَّهْرُ بِنابِه ***لَيْت ما حَلَّ بِنا بِه»
يُصَوِّر الشاعر الزمان (الدهر) في صورة الوحش الذي يفترس البشَرَ، ويرسم هذا الوحشَ بأسنان مُرْعِبة تفتك فتكا. فالكلمة الأولى «بنابِه» مكوَّنة من حرف الجر (الباء) والاسم (الناب). أما الكلمة الثانية فقد وردت جارّين ومجرورين (بنا) و(به). والمعنى النهائي: ليت الزمان يحلّ به ما حلّ بنا من هزيمة وخسائر لا تُعَوَّضُ.
المثال (20)
«لا تعرضنّ على الرواة قصيدةً**ما لم تكنْ بالغتَ في تهذيبها**وإذاعرضت الشعر غير مهذّب***عدّوه منك وساوسا تهذي بها»
«تهذيبها» الأولى مصدر الفعل «هَذَّبَ»، بمعنى الصقل والعناية بالنظم والحرص على السلامة من العيب. أما «تهذي بها» الثانية، فهناك الفعل المضارع «تهذي» من هَذَى يَهْذِي هَذَيانًا (حالة بين الوعي واللاوعي يترتّب عنها التكلّم دون تفكير) والجار والمجرور (بِها).
على أمل أن تكون في هذه النماذج الفائدة، نكتفي بهذا القدر من بديع الجناس الذي تزخر به لغتُنا ويطرب له حِسُّنا.

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
11/06/2016
3074