+ A
A -
الدوحة الوطن

أطلت دار نشر جامعة قطر على جمهور القراءة بكتاب فريد في بابه حمل عنوان (ضع رجلاك في الطين)، سعى مؤلفه الأستاذ محمد علي مصطفى من خلال طروحاته العديدة في صفحات هذا السِّفر لإيجاد طريقة عصرية في قراءة التراث، ونقده، وتجديد علاقتنا به، والانفتاح على علوم الدلالة، والوقوف على خصائص كثير من المفردات والتراكيب القرآنية الواردة، لا سيما في قصة «موسى» عليه السلام، كما يتناول «شرائح لغوية» عديدة، ويعمل على تحليلها بطريقة فريدة، وغير مسبوقة؛ ليجيب عن بعض الأسئلة المثيرة للاهتمام، (في النحو، والرسم، والقراءات)، مُبينًا أنه كان ينبغي لهذه الأسئلة أن تكون «مشغلة» حقيقية لنا، ولأجدادنا.

ومن بين هذه «البنى الصوتية» التي عني الكتاب بدراستها، وتحليلها بطريقة عميقة، ومدهشة، قوله تبارك وتعالى: ﴿إنَّ هذان لساحران﴾ في سورة طه، ومحاولة البحث عن «السر» الحقيقي وراء نزول هذه الآية الكريمة باللغة «الحارثية»، على قراءة «الجمهور»، ومن يوالون الحارثيين في تلك اللغة، مع بيان أدلة فصاحتها، ووجه القياس في لزوم المثنى ألفًا في تلك اللغة، والتي لم ترد في القرآن كله إلا في هذا الموضع، وفي مقول قول السحرة؛ حكاية على ألسنتهم، حين أن نشب التنازع بينهم، مخالفة بمجيئها هكذا «النحو المدرسي»، و«المشهور» من لغة العرب، و«المألوف» من لغة القرآن، بما في ذلك المثنى الوحيد الآخر الوارد في السورة نفسها، وهو قوله تبارك وتعالى: ﴿فَٱخۡلَعۡ نَعۡلَيۡكَ﴾؛ إذ جاءت «نعليك» بالياء، ولم تأت بالألف؛ لتمعن «إنَّ هذان» في منحنا إحساسًا بالغرابة حتى عن محيطها.

كما يقارن الكتاب في بعض مراحله بين لهجة «بلحارث»، ولهجة «قريش»، ويشير إلى أي من هاتين اللهجتين قد يمثل التطور الثقافي، والحضاري الطبيعي، وأيهما قد يعد بمثابة العمق التاريخي، والنشأة الأولى للغة، ثم يقدم الكتاب تحليلًا فريدًا، وغير مسبوق للبنى الصوتية، والتراكيب اللغوية التي تمثل «القراءات الأربع» المتواترة الواردة في قوله تبارك وتعالى: ﴿إِنۡ هَٰذَٰنِ لَسَٰحِرَٰنِ﴾، ويحاول أن يجيب عن سؤال عميق آخر، ومثير للاهتمام، وهو: لماذا نزلت هذه الآية الكريمة على «أربع قراءات»، ولم تكن على قراءة واحدة؟! من خلال محاولة الجمع بين هذه القراءات، والمقارنة بين البنى الصوتية المكونة لها، مع ما قد تمنحه من دلالات ضمن «مصفوفة» بصرية واحدة، وهو ما قد يفتح عقول القرَّاء على أهمية الاستثمار الحقيقي لمجالات فقه اللغة، من أجل إنتاج المعرفة الحقيقة، وغزل تلك المعرفة من الأدلة المتاحة، والقرائن الصوتية المتوفرة، وقد راعي الكتاب في طريقة تناوله، بشكل عام، أن تكون هي أكثر قربًا من القارئ، وأكثر إدهاشًا له، وأكثر قدرة على تغذية شغفه، وفضوله، وإثارة لاهتمامه، وذلك وفق منهجية بحثية مرنة، وعصرية، ومتماسكة، لا تتنكر للتراث، ولا تجافي قواعد العلم، ولا تتعالى على الهوية الثقافية الراسخة، ومع ذلك تنفتح على فنون القول المختلفة، عبر اللغة، وعبر لهجاتها، وعبر التجسير المعرفي الخلاق بينها، وبين سائر الفنون الأخرى كالتصوير، والمونتاج، والإخراج السينمائي، وغيرها.

مثلما كان «عنوان الكتاب» بحد ذاته لافتًا للانتباه ومثيرًا، بمخالفته المألوف، والمشهور من لغة العرب؛ وليهيئ المؤلف عقل القارئ به لمناقشة إحدى القضايا المحورية في الكتاب، وهي نزول (إن هذان) على قراءة الجمهور باللهجة الحارثية؛ ليكون الكتاب منذ عنوانه قادرًا على خلق بيئة تفاعلية حاضنة، بين القارئ، والمعارف التي سيقدمها له؛ وليدرك القارئ أن كل شيء، وإن بدا «غريبًا» نوعًا ما في بدايته، غير أنه قد يأتي في مكانه منطقيًّا، ومبررًا، وعلى المنوال ذاته، فقد جاء عنوان الكتاب باللغة الإنجليزية، وهو Put Your Feet in Mud منطقيًّا، ومبررًا؛ إذ اشتق المؤلف من مجموع الحروف الأولى للكلمات الخمس التي يتشكل منها «كلمة واحدة»، أطلق عليها اختصارًا اسم: «PYFIM»؛ ليقدم المؤلف من خلالها «منهجية بحثية» في المسائل الواردة ذات الصلة بعلوم الدلالة، وفقه اللغة، تُعنى بنقد التراث، ومحاولة تجديد بعض من «آلات» هذه العلوم، وإحياء ثقافتنا بإثرائها؛ لتشكل معًا «متلازمة» في طرح الاحتمالات، وبناء الاستدلالات، وقد اشتقها المؤلف من عدة كلمات، تمثل كل منها قيمة محددة (Value)، تعبر عن مرحلة معينة في تلك المنهجية المترابطة، والتي قد تأتي في بعض المراحل «متسلسلة» أو «متزامنة» بحسب طبيعة النقاش، مع المرحلة التي قبلها، أو المرحلة التي بعدها، وهذه القيم الخمس هي: (الاحتمالية: Probability – النسج أو الغزل: Yarn - الدقة والأصالة: Fidelity - الموضوعية والنزاهة: Impartiality – وأخيرًا القياس: Measuring)

وهي باختصار طريقة إبداعية لتوليد المعاني والأفكار، تساعد على التأمل في النص، والتفكير في دلالات البنى الصوتية، والتراكيب النحوية، بشكل واع، ومنطقي، ولها خطوات منهجية بحسب هذه القيم، تأتي في الكتاب مشفوعة بكثير من الأمثلة التطبيقية المعززة، بداية من محاولة إظهار عمق الإشكاليات، ثم طرح «الاحتماليات» والبدائل الممكنة، مرورا بـ«غزل» المعرفة من المعلومات المتاحة في بنية التراكيب، والمعطيات المتوفرة، بطريقة متماسكة، مع مراعاة «الأصالة والدقة»، ومراعاة «النزاهة، والموضوعية»، وعدم الوقوع في فخ الانحيازات المعرفية، وصولا إلى «مرحلة القياس»، بغرض الحصول على نتائج بحثية رصينة، ومدهشة، ولأن هذه القيم، وما تعبر عنه من مراحل بحثية قد تأتي «متسلسلة»، بل قد تأتي بالأحرى «متلازمة»؛ فقد أطلق عليها المؤلف اختصارًا اسم: «متلازمة بايفم»، PYFIM SYNDROME.

وقد حصلت هذه المتلازمة على «براءة ابتكار» للمصطلح، بتسجيلها كمنهجية بحثية، استنادًا إلى تحليل نماذج من البنى الصوتية، والشرائج اللغوية الواردة في الكتاب، من الهيئة السعودية للملكية الفكرية.

copy short url   نسخ
27/03/2024
35