قال تعالى: ﴿«إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ»...﴾، وشتان ما بين إنسان يتألم دفاعا عن الوطن، وآخر معتدٍ، يريد أن يغتصب الأرض، يملأهُ الخيلاءُ، الغُرور، والكِبرُ الفارغُ!!. وتالله، لا يماري في مشروعية النضال ضد الاحتلال؛ إلا من يريد للفلسطيني أن يموت في صمت، باسم السلام؛ وكأنه استثناء من كل الشعوب، التي ظلت تكافح، وتقاوم، وتقاتل المحتل؛ لتنتزع منه حريتها، واستقلالها.
وجاءت معركة «طوفان الأقصى»؛ لتدق المسمار الأخير في نعش الكيان الصهيوني، آخر جيوب الاستعمار، والعنصرية الكريهة. وانكشفت، وانكسرت إسرائيل أمام إرادة المقاومة؛ التي تلاعبت بأعصاب القيادات الإسرائيلية السياسية، والعسكرية، ووضعتهم تحت ضغوط نفسية كبيرة، وجعلت رئيس الحكومة الصهيونية بنيامين نتانياهو، يعيش حالة تخبط، وعجز عن تحقيق أي من أهدافه الثلاثة في الحرب الهمجية؛ حتى استعادة الجنود الأسرى فشل فيها؛ فأصبح محاصرا بالمظاهرات الشعبية؛ التي تطالبه بعودة أسراهم المختطفين في غزة.
مثل العاصفة، جاءت معركة «طوفان الأقصى»؛ لا لتضرب مشروع التطبيع المجاني –سيئ السمعة–، أو تعرقل مخططات الإمبرالية الغربية... – فحسب-؛ بل لتمنح قبلة الحياة للقضية الفلسطينية، وتكون كاشفة لنقاط الضعف القاتلة للكيان الصهيوني. فمعها ظهرت ملامح المشهد الإسرائيلي الداخلي، بين: معارضة علمانية –يائسة-، ويمين متطرف -ميؤوس منه-، وبمكوناتها الهشة، والممزقة: سياسيا، حزبيا، وعسكريا، مع غليان مجتمعي، مرشح أن يقودها إلى حرب أهلية، قد تلقي بظلالها على مستقبل الدولة العبرية؛ التي أصبحت محل شك. وقد فقد المستوطنون الإسرائيليون الثقة في قياداتهم، عندما اكتشفوا الأكذوبة!؛ التي تم فرضها بقوة السلاح، والخداع الاستعماري، وهي «أرض الميعاد»، و«الكيان الآمن»؛ وأنهم لايزالون في التيه!.
وعلى رأي المثل الشعبي: «من يزرع الريح، يحصد العاصفة»، وما أكثر ما فعلت حكومة الاحتلال!، بداية من استفزازات للفلسطينيين، وانتهاكات متكررة للأقصى، واغتيال لقيادات من سرايا القدس –الذراع المسلحة لحركة الجهاد الإسلامي–، وقد ظلت على نهجها هذا، حتى أنه لم تردعها عمليتا: «سيف القدس» -هبة الكرامة- في مايو(2021م)، و«ثأر الأحرار» في مايو (2023م). فكان لا بد من وقفة حاسمة مع هذا الطغيان، وسرعان ما توحدت ساحات المقاومة الفلسطينية، من أجل تنفيذ معركة «طوفان الأقصى»؛ لردع الغطرسة الإسرائيلية، وكسرها أمام العالم، وإذلالها بأسر جنودها، واختطافهم إلى داخل قطاع غزة، واستخدامهم كورقة ضغط نفسي، أو مثل «كعب أخيل»، في إشارة لنقطة الضعف عند العدو، كما تذكر الميثولوجيا أو الأسطورة الإغريقية.
وعند الصهيونية، تختلط المبادئ الدينية، مع الأفكار السياسية، في شأن قضية الأسرى، وتشكل عبئا نفسيا على القيادات الإسرائيلية؛ فتضعها بين خيارين كلاهما مر، فإما: الرضوخ للمظاهرات الشعبية وغضب أهالي المختطفين، والموافقة على شروط المقاومة الفلسطينية –المذلة لهم-، بوقف شامل للحرب على غزة، ومبادلة (الكل بالكل)، وهذا الشرط يجد له صدى داخل الجناح العلماني، بما فيه اليساري الإسرائيلي –اليائس-، لمروره بحالة وهن حزبي، إلا أنه يؤمن بقيمة الفرد الصهيوني، من منطلق فلسفة موسى بن ميمون: «ليست لديك فريضة دينية أعظم من فدية أسير»، بينما اليمين المتطرف -الميؤوس منه-؛ لكونه مشبعا بعقلية الهيمنة على الأرض، بأي ثمن، ويطبق برتوكول هانيبال: «جنديًا قتيلًا أفضل من أسير»؛ لأن وقوع الجندي في الأسر، يجبرهم على تقديم تنازلات كبيرة لفديته.
وإذا كان لا صوت يعلو على صوت الحرب؛ إلا أن رئيس أركان الجيش الإسرائيلي الأسبق دان حالوتس، خرج عن صمته مؤكدا، أن تل أبيب خسرت الحرب أمام حركة «حماس»، وأن ما يحدث في غزة، هو هزيمة محققة للكيان المحتل، وثمن فادح، حيث نحو 1300 جندي صهيوني قتيل، و240 أسيرا، وأكثر من 200 ألف لاجئ من المستوطنين، الذين نزحوا من مستوطناتهم على الحدود مع القطاع جنوبا، أو في الشمال عند الحدود مع لبنان، وأن الإطاحة برئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، بات هو السبيل الوحيد لإنقاذ إسرائيل من هزيمتها المذلة؛ والتي سيكون لها تبعاتها فيما بعد على كافة المستويات، وأهمها، أن بعد 7 أكتوبر 2023م، سوف يختلف عما قبله، وأن المقاومة التي نفذت معركة «طوفان الأقصى»، قادرة على أن تفعلها مرة أخرى.
وهنا أتذكر الزعيم الراحل جمال عبدالناصر، عندما قال: «ما أخذ بالقوة، لا يسترد إلا بالقوة»؛ ولذا كفى ما ضاع من السنين، في الجري خلف المحتل الصهيوني؛ لتقديم مبادرات سلام، ولا أقول «استسلام» لم يلتفت إليها؛ لأنه مشبع بعقلية الغرور والغطرسة!، ويعتبر نفسه فوق القانون الدولي، بحماية أميركية، ويقوم بتنفيذ أجندة استعمارية بالوكالة، وتمرير مشاريع إمبريالية في المنطقة. ويبقى الأمل في المقاومة، ومن خلفها حاضنتها الشعبية في قطاع غزة؛ والتي رغم ما قدمته من شهداء، أخضب بدمائهم الذكية تراب فلسطين، وكذلك كثرة الثكالى، والأرامل، واليتامى، وزد عليه كل الدمار، والخراب؛ ومع ذلك ترى الأسر الفلسطينية تجلس على أنقاض منازلها، وهي تردد كلمات الشاعر الفلسطيني صلاح الدين الحسيني: «وعهد الله ما نرحل.. عهد الله نجوع نموت ولا نرحل»[email protected]