+ A
A -
يُخَيَّلُ إليك وأنتَ تطرق بابَه (أو تَفْتَحُ له البابَ منجذبا إلى عطر قلمه الفَوَّاح مستسلما لعَبَق نسيمه الحالِم الذي يأخذك إلى حيث يشاء هو) أنه عاشق من الزمن الجميل، عاشق مازال لبَوْحِه الشَّفِيف الوقعُ نفسُه على شفاه (لِشفاه) يَتَصَبَّبُ منها عسلُ الكلمات.
كلماتُه (هو الحَيِيّ الشقِيّ) تَعْبُرُكَ كما لو أنها رائحةُ أنثى مَرَّتْ مِنْ هنا، رائحة تتطاير ألسنة لَهَبِهَا لتعمل عملَ الجاذبية المغناطيسية، وبذلك تجد كلماتِه تحفر حروفَها/ حضورَها في خريطة عقلك/ قلبك/ وجدانك..
هي.. هي ومَنْ تكون هي تلك الفاتنة الجبّارة سوى حروفه المنتصبة جسرا على نهر المكاشَفة والمعايَنة والموازَنة.. والمراهَنة لِمَ لا؟!
هو.. هو ومَنْ يكُون هو سوى لاعب خط الدِّفاع والهجوم والحَكَم والمتفرِّج (المتفرِّج الإيجابي لا السّلبي).. هو المدافِع بالكلمة والمهاجِم بالكلمة والحَكَم بالكلمة والْمُصَفِّق والْمُعاتِب والرافِض بالكلمة دائما.. هو صاحب الطريقة الفريدة من نوعها في العشق، أُحَدِّثُكم عن محمد الرُّطَيَّان، ولْتَكُنْ رُطَيَّانِياتِ عاشقٍ كَلِمَاتُه.
الكَلِمَات!
الكلمات وما تكون!
إنها الكلمات التي ذكر عنها صاحبُها الرطيان مؤمنا حتما ويقينا أنها (الكَلِمَات) لَكَمَات.
لا شك في أن لهفة السؤال هنا تجثم على أنفاس وعينا الجمعي لنتساءل باستغراب لا يخلو من دهشة لذيذة تتفجر عند عتبة الانفلات من قيود المعنى كما يرسم الرطيان حدودَه، ما قاله منه (المعنى) وما لَمْ يَقُلْه:
من أين استمدّ الرطيان هذه القوة ليكتب بذاك الجبروت وتلك القوة؟!
من أين استمد الرطيان هذا الدهاء ليصف ما لا يَقِلُّ دهاءً وقوة؟!
أنَكُون حقا ممتثلين لسلطة الكلمات التي تُخْجِلُنا برِقَّتِها ونحن في حضرة عِشْقٍ (لها) مَصْقُولٍ بِدُرْبَةِ مُتَمَرِّسٍ في الكتابة؟!
أم نسينا نحن أننا في حَلَبَةٍ يحتاج فيها اللاعبُ بالكلماتِ إلى مهارة وشطارة تُعَادِلُ ما يحتاجه من قوةٍ لِيُسَدِّدَ اللَّكَمَاتِ (بالكَلِمَات) في الوقت المناسِب ودون أن يخطئ الهدفَ؟!
..؟!
مؤكد أننا كُلَّمَا فَتَحْنَا بابَ الأسئلة فتحنا صنبورا لا يجفُّ ماؤه ولا يكفُّ عن الانسياب لاسيما وأننا في مقامِ كتابةٍ (والشاهد قَلَم الرطيان) تُعَدُّ بمثابة يَنْبُوعِ أسئلةٍ تَسْتَدْرِجُكَ إلى ما وراء المعنى الضَّيِّقِ الذي يتبادر إلى ذهنك للوهلة الأولى.
الكتابة على حد تعبير الرطيان هي لَكَمَات:
«كُلّ ما أفعله هو أنني ألعب بالـ (ك ل م ا ت) فتصبح لكمات!» (الرطيان)
لكنها أيضا (الكتابة) في منظورنا الخاص ووفق رؤيتنا الخاصة بناء على قراءتنا في المشهد الرطياني هي مَلَكات (مفردها مَلَكَة).
والْمَلَكات كما لا يخفى هي قُدُرَات وحِذْق وإتقان دلمن شاء، شأنها شأن النِّعَم التي يوزعها الخالق سبحانه وتعالى بالتساوي، فيعطي بعضها لهذا والبعضَ الآخر لذاك، والكمال لله وحده.
الكتابة لعبة، هي لعبة مُشَوِّقَة ومُبْهِرَة، هي أيضا لعبة مستفِزَّة (للورقة، للآخرين..).
فمن يكون الكاتب إذن؟!
الكاتب لاعب بالكلمات، والقَلَمُ هو الأداة التي يستخدمها الكاتب لإعادة ترتيب هذه الكلمات في كل مرة، وفي كل مرة هو يُشَكِّلُ (تشكيلا) ما شاء من صور ومتخيَّلٍ وانثيالاتٍ حَرْفِية. هكذا يفعل الكاتب اللاعب.
لِكُلّ منا لعبته المفضلة. هناك من يلعب بالكرة (الساحرة المستديرة)، هناك من يلعب بالقلم، هناك من يلعب بالريشة، هناك من يلعب بلسانه، هناك من يلعب بِخَصْرِه (الراقص[ة])، وهناك من يلعب بالآخرين (كرة من لحم ودم)..
يقينا ستقفون مطولا عند اللاعب بلسانه، وستسألون: مَنْ يكون؟!
اللسان يا عزيزي عصا سحرية، تُحَرِّكُهَا أنتَ كما شئتَ، فتعطيك مرة حمامةً (لا ندري إن كانت حمامة للسلام أو ليست للسلام)، وتعطيك مرة أخرى قُبَّعَةً تُرْفَعُ لَكَ أو تَرْفَعُها لمن شئتَ تقديرا واعترافا (CHAPEAU!)، وقد تُلْقِي بك (العصا السحريةُ) في طريق الندامة إذا أسأت الرقصَ بلسانك أو جعلتَه يمتد إلى من/ ما لا يعنيك..
الرطيان محارِب باسل في ساحة الكلمة، محارب يخوض المعركة بشجاعة وجرأة لا تلمسها دائما في استعراضات من يهمّهم الأمر (وحتى مَنْ لا يهمّهم الأمر):
«العبيد لا يُجِيدون الكتابة..
الكتابة حرية» (الرطيان)
فإذا اتفقنا على أن الكتابة حرية لا يجرؤ العبيد على تعاطيها، بل هم يخشونها، نفهم أن الكتابةَ تجري رياحُها بما لا تشتهي سُفُن من أدمنوا الانقياد وتراهم ينجرفون كتُرْبَة هشَّة غير متماسكة، ينجرفون مع مياه الوقت المتسلِّط.
أمّا الرطيان الْمُتَسَلْطِن وقد سَلْطَنَتْهُ حروفُه، لنَقُلْ: إنها جرأة منه أن يكتب بهذا الـ «كَيْف».
هو يكتب ويكتب، يكتب دون حَرَج، ويرى في مساحة الورقة (التي يطبع فيها وشما بحدّ السيف) المكان الأنسب لقهر عدوه (الزمن- الإنسان) وتوثيق لحظة/ لحظات موته:
«الكتابة موت» (الرطيان)
لكن مهلا، مهلا، فليس هو يحدثنا عن أي موت. إنه الموت الجميل (الكتابة) أو الموت السعيد كما يسمّيه أهله. لِنَقُلْ: إنه الموت الرحيم الذي ينتشلك من فوضى الصمت/ الشهادة.
«الكتابة غفران الصمت» (الرطيان)
لا يختلف اثنان في أن الموت الرحيم هذا هو الذي تختاره لنفسك بنفسك، هو النار التي تترفّق بك بِقَدْر ما تتلظى فيها أنتَ، فتؤهّلك لبدايات أخرى وتجدِّد كينونتك على مدار الوقت.
الرطيان يكتب بجرأة، جرأة في الطرح لا تنقصُ الرطيان، وهي كذلك جرأة في النقاش ليست فقط على طريقة الشعراء وإنما تأتي جرأته على طريقة الفلاسفة.
يتهاطل عليك مَوْزُه هو الرطيان، فإذا بكتاباته تجعل منه شجرةَ حكمةٍ، شجرة حكمة يَكُونُهَا هو تُذَكِّرُنَا دائما بجلسات الفلاسفة في الهند تحت شجرة الموز.
شجرة الموز تلك قد اتخذها فلاسفة الهند مائدة حتى أُطْلِقَ على الموز اسم «طعام الفلاسفة». لكن الرطيان كعادته يقلب الصورة، فإذا به يجعل من غذاء الفلاسفة مائدةً لقُرَّائِه.
في دار الوطن الفَيْحاء أنتَ أمام مائدة باذخة الأقلام، فكُلَّما تذوَّقْتَ أنتَ قلما ازْدَدْتَ تعطُّشا إلى حبره. لذلك لا غرابة أن تجعل منك الوطن كائنا مُلْهَمًا.
الرطيان (الذي لا أعرف عنه شيئا هو الآخر سوى أن حِبْرَه المندلِق على جدار الوطن يغريني بالدُّنُوّ) أراه يرابط في محراب الحَرْف مُشَيِّدا من رخام الكلمات وحريرها معبدا يَتَيَمَّنُ فيه بعِشقه الصوفي للحَرْف.
دبيب الأنوثة (والكتابة أنثى) يتسلَّلُ إلى خيمة الرطيان ليسلِّط عليك ما يَكْفِي ويُشْفِي من ضوء، فتنقاد أنتَ لِأَمْرِ حروفه ونَهْيِها، ويَشُدُّكَ الحنينُ إلى عوالِم الفتنة التي تذوب أنتَ تَطَلُّعًا إلى المزيد منها كُلَّما أَمْطَرَتْكَ سماء التَّوقِ حَرْفًا وحَرْفًا..
«الكتابة امرأة مستحيلة لا تشبه بقية النساء» (الرطيان)
الكتابة (كما يَرْسمها الرطيان لَكَ) كأنها المرأة/ اللغز، كأنها إكْسِير الحياة.. هي امرأة تسكنك، وبقدر ما تعشقها أنتَ تسلِّمك هي نفسَها وكلَّ شيء.
الكتابة أنثى فاتنة، أنثى البهاء هي تلك التي يتأهَّبُ الرطيان لموعدها وكأنه على موعد مع امرأةٍ ليستْ مِنْ ورق، امرأة نابضة بالدفء تجعلك تشتعل اشتعالا وأنتَ تتهيّأُ لملاقاتها قبل أن تَحْمِلَكَ قدماك إليها.
لهذا ترى الرطيان يُشْرِكُ قُرَّاءه (قارئا قارئا) في الاحتفاء بالمناسَبة/ الموعد والترتيب لأمره:
«أيهما أفضل: أن تذهب إلى الكتابة بفكرة مسبقة، أو أن تذهب إلى الكتابة وليس لديك سوى سؤال حائر» (الرطيان)
والأدهى والأروع أن الرطيان مرة أخرى يقاسم قُرَّاءه (قارئا قارئا) اللهفةَ على السؤال وكأنه سيسأل عن حال حبيبة يعبدها القلبُ وتزهو للعينين شمسُها ولسانُ حاله يقول: بأيّ حالٍ أنتِ؟
إن الرطيان هنا يُربك ترتيب أوراق قارئه، فيتساءل ببراءة (في الظاهر) وكأنه يُحَدِّثُ نفسَه عمّا إذا كان سيحمل إلى معشوقته هدية، أو أنه يذهب إليها بيدين فارغتين، يكفيه ما يحمل لها في قلبه من حُبٍّ وتَوْقٍ لا يَأْفُلُ نجمُه.
ألَسْتَ تَغْبِطُ الرطيانَ والكتابةُ أنثى تستحقُّ أن تَشْغَفَ بها أنتَ كما يَشْغَفُ بها هو (الرطيان) قائلا لها كلّما آنَ موعدُ لقاءٍ: تَهَيَّأْتُ لَكِ؟!
الكتابة بمفهوم الرطيان تأخذك في رحلة ممتعة لا تنتهي، هي رحلة العمر التي تتراءى لك فيها الكتابة كصبية ساحرة تعرف كيف تشدّك إليها، فتخرج أنتَ دون رجعة، تخرج أنتَ منكَ إليها (الكتابة):
«اجْعَل الرحلة تتزيَّن لكَ.. لأنك المسافر الوحيد الذي حلمت به منذ أن ابتكر الإنسان أول درب!!» (الرطيان)
الكتابة/ المرأة في أدهى تجلياتها كما نفهم من إنتاج الرطيان هي الطُّعْمُ والشبكة، هي الصيّاد والمصيدة والصَّيْدُ (ما يُصاد)، هي البِئْر والدَّلْو وشَرْبَةُ الماءِ..
ها هو الرطيان الطائر الحائر ينقلك على جناح الحَرْف ويُحَلِّق بك في سماء الواقع وما وراء الواقع عابرا الحدود والمسافات، وفي كل مناسَبة يدعوك إلى التريُّث عند جمال المبنى والمعنى:
«حتى الموضوع السيئ اكتبه بشكل جيد» (الرطيان)
إذن تحت أي ظرف وفي كل الأحوال احْرِص على أن تُتْقِنَ كتابتَك لتتلذذ أكثر فأكثر، كما يتلذذ القارئ تماما.
الكتابة امرأة. الكتابة وطن. الكتابة أرض، أَجِدْ حرثَها وزرعَها تَجِدْ من حَصَادها ما يليق بانتظاراتك/ انتظاراتهم (القُرَّاء).
الكتابة عند الرطيان قطيعة ومصالَحة، قطيعة مع الزمن، ومع أهل الزمن إذا اقتضى الأمر، ومُصالَحة مع نفسك. هي إغواء وغواية، وقد تصبح مع الوقت (الكتابةُ) شرا لابدّ منه إذا جَعَلَتْ منك الفريسةَ والضحيةَ، كأنك الجلاّد والمجلود.
عند هذا تكون الكتابة ذنبا يداني مرتبةَ الخطيئة ويسمو إلى الاعتراف بالخطيئة:
«الكتابة ذنب يؤنِّبك ضميرُك إذا لمْ ترتكبه بشكل فاحش الروعة» (الرطيان)
لا تَنْسَ (هكذا يحذِّرك الرطيان وينبِّهك)، وتذكر دائما عزيزي القارئ:
«الكتابة ليست حبَّة أسبرين
الكتابة عملية جراحية جميلة» (الرطيان).
قبالتك تنساب رُطَيَّانياتُه (كتاباته) كأنها الشلاّل يبهرك ماؤه صفاءً وعذوبةً، والقطرة منه (الحرف) تَحْمِلُكَ على ظهرها كما لو تكون هي قاربا يجدف بك إلى عواصم الممكن والمستحيل، تعانق خُلْجان السلام، تصطاد اللؤلؤ من الكلام..
عشق رُطَيَّاني ذاك الذي تَجْلُوهُ كتاباتُه يُمَهِّدُ لِعُبُورٍ وعبورٍ.. وفي كل مرة تستهويك رحلةُ القراءة ولا تُسْعِفُكَ السطور. لِنَتَذَوَّقْ فاكهةَ العشق في خيمة الرطيان.

بقلم : سعاد درير
copy short url   نسخ
04/06/2016
2057