+ A
A -
منذ اشتعال الأزمة الخليجية قبل عام من الآن، لعب الدور الإعلامي مساراً مركزياً فيها، في بعدين رئيسيين:
الأوّل كان التهيئة الإعلامية للمشروع الأوّل ووضع الناس في الخليج العربي، في نفسية ذهول وتحت قصف الاشاعة والصدمة، والتبرير الذي لم يكن له أصول تُعقل سياسياً.
لكن كان المهم توقيت ضخّه، على الشعب العربي في الخليج، للإعداد النفسي السريع، لحدث دراماتيكي، يتجه نحو مسار 2 من أغسطس في الكويت، أو يقل عن مستواه، ليصل لانهيار سياسي كامل لقطر، تحت تهديد زحف جماعات قتالية أو قوات نظامية.
فشل المشروع الأوّل الذي اعتمد أصلاً على الضخ الإعلامي، والحرب السياسية الاستراتيجية في تويتر، عقّد الموقف على دول المحور، وهناك نسبة تقييم قانوني وسياسي كبيرة، غابت قطعاً عن أصحاب القرار، الذين راهنوا على أن غطاء ترامب الذي تصدع سريعاً، خاصة في مسار العنف المتطرف،- بناء على مصالح قومية أميركية، ضغطت به المؤسسات عليه-، سوف يكفل لدول المحور الخلاص السريع، من تبعات هذه التصريحات والتغطيات، وتكلفتها القانونية المستقبلية.
والبعد الثاني:
حين بدأت محاولة تصحيح الخطأ، لدى دول المحور، بخطأٍ آخر، وُضعت فيه منصة تويتر، في موقع التوجيه المعنوي المركزي، دون أرضية قادرة أو منضبطة، وهذا الأمر، لم يصل لهذا المستوى من الفوضى الخطيرة.
لولا نجاح أبوظبي في سحب السعودية، من أقل درجات التوازن السياسي والسيادي، الذي حافظ على شعرة معاوية في علاقاته الخليجية، وتوتراتها المختلفة مع دول الساحل الخليجي، على مدى 40 عاماً.
وكان أمام الدوحة خيار اضطراري، لخوض معركة الرد الإعلامي، التي بدأت بانضباط أخلاقي، ثم توسّعت عناصر الرد والدفاع، الذي لم يصل مطلقاً لمستوى الحملات الموجهة ضد قطر، والذي تجاوز بعضها قطعاً وأساء للآخرين في الخليج، بعد أن أدرك الجميع في قطر، دولة ومجتمعاً، أنهم أمام خيارات حرب دفاع وجودية.
يُعلن فيها الخصم رسمياً، تأكيد نواياه علناً، منذ التهديد العسكري، إلى قناة المياه العازلة، التي باشرت لأول مرة في التاريخ، قطع الرابط الخليجي الاجتماعي، بين أركان الساحل وامتداداته الديمغرافية الاجتماعية، عبر منطقة الأحساء الواصلة بين رحم أهل الخليج العربي، بادية وحاضرة، من الكويت إلى عُمان.
ودفع ذلك التطور قطر، لمواجهة التوحّش الإعلامي، لتُعيد بوصلة التقييم الإعلامي بناء على المصلحة الوجودية لأمنها القومي، والصراع الإقليمي الشرس فيه، وبلا أدنى شك أن تطرف دول المحور هو من هيأ لهذا التحول، الذي لم ولن نسعد به، في قضية المشروع الإيراني وزحفه على المنطقة، لكننا نفهمه بوضوح.
فالدوحة اليوم تُنظّم ملفاتها، بناءً على أمنها الوجودي أوّلاً، وإن بقيَت مشتركات الضمير الرسمي والشعبي، في الدوحة متحدة في عمقها العربي والخليجي، من تجاوزات النظام الإيراني.
والحقيقة التي حاولنا إيصالها مبكراً، منذ تطور الصراع العربي مع المشروع الإيراني الطائفي، والحروب التي أنتجها طموح طهران، وتقاطعاتها الإسرائيلية والأميركية، أن لغة ذلك الصراع وتوازنه، كانت خاطئة بل قاتلة للضحية نفسها، حين سُعّرت طائفية سنية لتقابل طائفية إيران وميلشياتها، في دورات توتر كبرى منذ 1979، لم تُراعي لغة الانضباط ولا حساسية المجتمعات.
ولم تحافظ على الجانب التاريخي الاجتماعي، الذي يجمعنا إقليميا وديمغرافيا، منذ مئات السنين مع ساحل فارس، وعبره تعبر مصالح طبيعية، وتواصل إنساني، فضلاً عن رسالة الإسلام التي تجمعنا، مهما بلغ التطرف الطائفي من كل الأطراف، حيث الأصل أن يجنح الناس، إلى تأمين فكرهم وعلاقات السلام الاستراتيجية، ضمن بناء الدول وحدودها وتداخلاتها الاجتماعية والجغرافية.
وكان بالإمكان أن يُعزل هذا الصراع، عن الحرب الطائفية المجنونة، ثم القومية العنصرية، التي نجح الغرب في توظيفها من جديد لمصالحه، ولم توقف أياً من تعديات إيران الضخمة، على أمن الشعوب ووحدتها الاجتماعية، أي أنّ الحرب الطائفية المقابلة، أضعفت البنية السُنية وورطّتها، قبل أن تنقلب عليها مؤخراً، بعد التطور السعودي الأخير، واندماجه مع أبو ظبي.
وهذا التشخيص لن يُغطّي الملف الضخم، لفشل الجانب العربي في وقف الزحف الإيراني، والذي دونّا انكساراته، ومآزقه في كتاب، الخليج العربي والزحف الإيراني، والذي ساهمت فيه نفس الخطط والعشوائية الخليجية، منذ حرب العراق وإيران الأولى.
حتى إعلان الصدر الأخير تحالفه، مع هادي العامري قائد الميلشيات الطائفية، التي ارتكبت أبشع مجازر التاريخ الحديث واتحادهم مع د. حدير العبادي، في الحكومة المقبلة، والأطراف المشكِّلة في الأصل لتوجهات البيت الشيعي السياسي، الذي برز في موسم الاحتلال الأميركي 2003.
والذي نقصده هنا، أن كل ذلك الضخ، بأن هناك مشروع عربي قادر على عزل إيران، من داخل العملية السياسية، هو وهمٌ كبير لا حظوظ له، إلّا في الضخ الإعلامي، لطمأنه النفس والجمهور، بنجاح سياسي أمام الزحف الإيراني، والزعم بأن قرار النكسة الخليجية، بات يحقق تقدما في هذا المسار.
وهذا تقييم يسقط عند أوّل رؤية تحليلية، فلقد كان قرار الأزمة الخليجية، كارثة على المجتمع الخليجي والمشروع العربي الرسمي، الفاشل أصلاً، في وقف هذا الزحف، والذي تحقق لإيران في سوريا وفي العراق، وهما بنيتها الأصلية تحت موسم الأزمة الخليجية.
ثم حسمت في لبنان حسم تاريخي، لم يصل إليه مشروعها الاستراتيجي من قبل، وانهار مشروع سعد الحريري والمستقبل، تحت قصف الفوضى السياسية والإعلامية، التي أنتجها خطاب الأزمة.
وقد يتعثر مشروعها في اليمن، ولكن عقل إيران الاستراتيجي ذو نفس طويل، وبالتالي حتى لو تحقق تقدم مهم للشرعية، في اليمن، فلا نعرف إلى أين ستستمر معركة صنعاء، والإشكال هنا، في طريقة التعاطي والفهم الاستراتيجي للمعركة، فإيران حتى لو وقفت آلة الحرب وهذا ما نرجوه، وأن تعود شرعية الجمهورية، إلى منصة القيادة السيادية لكل مناطق الدولة، ويعقبها مصالحة وإعمار لليمن، فلها أرضية ولاء ونفوذ ستستمر.
وفهم هذه الأرضية ضرورة لأي نجاح، ثم التعامل معها بواقعية سياسية، بحيث لا تُدفع اليمن لحرب سياسية طائفية، بعد وقف إطلاق النار، ولا يؤزّم المجتمع اليمني كما حصل في لبنان، وحلبت إيران مصالحها، وخسر لبنان مزيداً من عروبته وسيادته.
وإنما تحترم إرادة الشعب اليمني، وتعمر علاقاته التاريخية، ووحدته الاجتماعية، وتكّف فكرة الحرب المجنونة على الإسلاميين المدنيين، من إخوان وغيرهم، وتشجيعهم لبناء شراكة استراتيجية، في اليمن لا استعدائهم، على المحيط الإقليمي الخليجي، الذي ورطته أبوظبي في معارك ومشاريع، لن تكون قاعدة استقرار وتعايش بين اليمن الجديد، الذي يولد من رحم الحرب، وبين هذا المحيط الخليجي المتصدع.
إن فكرة أن يُعاد تقييم المنهج السياسي والإعلامي والاستراتيجي، لمنطقة الخليج العربي، والخروج من صراع إنسان الشرق أكان فارسياً أو تركياً، أو كان مذهبيا مختلفاً، هو أساس ضروري لأي تصحيح مستقبلي، بل إن إيران الدولة، لا يُمكن أن تسقط من هذا التفكير، فالحفاظ على التوازن معها دون الحرب، لا يُلغي أحقية الصراع المنضبط ضد تعدياتها.
لكن الكارثة كانت، حين خُلقت بيئة خطاب كراهية بين العرب والفرس، ثم العرب والأتراك، ثم الأصول الاجتماعية ذاتها لبعض مناطق الخليج العربي، المتداخلة مع فارس تاريخياً، فهذه الرؤية التصحيحية التي تضبط عنوان الصراع، وتتمسك بالسلم الأهلي للمجتمعات، لا يُمكن أن يُنفذها ولا أن يضع تصوراتها، من يجهل كامل تاريخ المنطقة، ومكوناتها الاجتماعية، وهو ما تحتاجه الرياض لوقف خسائرها، إلى طاقم صادق لا يُشترى، تعتمد عليه للخروج من مآزق كبرى.
وهنا نشير إلى نموذج للفهم، فالجميع يعرف، أن القوة الاجتماعية الاقتصادية، في دولة الإمارات العربية المتحدة، يشارك إدارتها، مواطنون تنتمي أصول بعضهم، إلى شعب ساحل فارس، غير العربي، أو كمقيمين وتجّار إيرانيون شركاء في حركة الاقتصاد.
ولم يجر أي توتر معهم ولا مصادمة، ولا يزال نفوذهم قائماً، وقد تكون قلّة منهم متورطة، في دعم جرائم حرب ضد الإنسانية في سوريا والعراق، ومع ذلك لا يوجد أي توتر مع هذه البنية، وحركة التجارة قائمة وحيوية مع بازار إيران الواسع، رغم احتلال الجزر، والتصعيد السياسي الموسمي.
هنا نذكّر بالمقابل بالوضع الخطير الذي وصلته الرياض، مع شعوب ساحل الخليج العربي، وكيف سيتحوّل في المستقبل هذا الاستهداف العنيف والمتطرف، لأهل قطر، وخاصة رمزية قطع علاقات أهل الساحل بقناة سلوى، وما هو ردة فعل الوجدان العربي، لأهل الساحل بكل مكوناتهم، حين تُثبّت أمامهم رمزية المفاصلة والقطيعة.
وكيف تُقيّم سياسة الدولة السعودية الجديدة، التي خرقت عهد رباط وميثاق بين ساحل الخليج العربي المتحد طبيعياً، عبر الأحساء من الكويت إلى سلوى وإلى عُمان، حين دخلت جغرافيا الشرق السعودي تحت سيادتها؟
إنه من المؤسف، الّا يوجد فهم سياسي واستشعار استراتيجي، لمثل هذه الرسائل، في صناعة القرار السعودي، الذي بات يدخل في مواجهات عنيفة داخل اللحمة الخليجية، في ظل تورطه في صراعات قومية قُطرية، من المغرب العربي إلى الصومال، حتى الحليف مصر، فتم استدعاء نزاع اجتماعي شعبي معها، من خلال فوضى التدخل الرياضي والفني.
هل هذا الحصاد، هو خسائر لإيران؟
أم مكاسب تاريخية كبرى تعد به، لجولة جديدة، ولا ندري اليوم إن كان هناك من يبحث عن الرأي للتصحيح، فها هي الرؤية، أما من همّه التصعيد للمراهنة على كسب سياسي موسمي، فلن يُسعفه الزمن، ولا يلومنّ إلا نفسه، بعد أن نبذ كل رأي ناصح حوله، واستبدلهم بجوقة أبوظبي.

بقلم : مهنا الحبيل
copy short url   نسخ
26/06/2018
6299