+ A
A -
د. فاطمة سعد النعيمي أستاذ التفسير وعلوم القرآن بكلية الشريعة جامعة قطر

بسم الله، والحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

لفظ «الابتلاء» مأخوذ من مادة (ب ل و) التي تدل على نوع من الاختبار، ويكون البلاء بالخير والشر، والله عز وجل يبلي العبد بلاء حسنا وبلاء سيئا، وذلك راجع إلى معنى الاختبار لأنه بذلك يختبر صبره وشكره، وبلوته تأتي أيضا بمعنى جزيته، وتأتي كذلك بمعنى استخبرته، والاسم من الابتلاء: البلوى والبلية والبلاء والجمع من ذلك: بلايا، وفي الحديث: «اللهم لا تبلنا إلّا بالتي هي أحسن» ويقال: أبلاه الله بلاء حسنا إذا صنع به صنعا جميلا، وقال ابن قتيبة: يقال: من الخير أبليته ومن الشر بلوته، وعقب على ذلك الرأي ابن منظور فقال: والمعروف (في اللغة) أن الابتلاء يكون بالخير وبالشر معا من غير فرق بين فعليهما ومن ذلك قوله تعالى: (وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنا تُرْجَعُونَ)، وقال ابن بري: يأتي الابتلاء أيضا بمعنى الإنعام كما في قوله: (وَآتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ). أي إنعام بيّن، وقال تعالى في قصة سليمان عندما سخّر له من يأتيه بعرش بلقيس في طرفة عين: (قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ)، وفي الحديث: «من أبلي فذكر فقد شكر» قال ابن الأثير: الإبلاء «هنا» هو الإنعام والإحسان.

وقال الكفوي: الابتلاء: التكليف في الأمر الشّاقّ، ويكون في الخير والشر معا، ولكنهم (عادة ما) يقولون: في الخير أبليته إبلاء وفي الشر: بلوته بلاء.

وقال ماجد كيلاني: الابتلاء هو اختبار مدلول العبادة بمظاهرها الدينية والاجتماعية والكونية وهو المظهر العملي لعلاقة العبودية بين الله عز وجل والإنسان.

هذا ويرتبط مفهوم الابتلاء بمفهوم آخر يتعلق به تعلقا شديدا وقد يرادفه أحيانا، ألا وهو مفهوم الفتنة، تعني ما يبين به حال الإنسان من الخير والشر. وقال المناوي: الفتنة: البلية وهي معاملة تظهر الأمور الباطنة. وقال ماجد كيلاني: الفتنة هي الامتحان أو الاختبار المذهب للعقل أو المال أو المضل عن الحق.

ويقول ابن القيم: الفتنة نوعان: فتنة الشبهات. وهي أعظم الفتنتين، وفتنة الشهوات. وقد يجتمعان للعبد. وقد ينفرد بإحداهما. أما النوع الأول وهو فتنة الشبهات من ضعف البصيرة، وقلة العلم، ولا سيما إذا اقترن بذلك فساد القصد، وحصول الهوى. وهذه الفتنة مآلها إلى الكفر والنفاق، وهي فتنة المنافقين، وفتنة أهل البدع، على حسب مراتب بدعهم. وهذه الفتنة تنشأ تارة من فهم فاسد، وتارة من نقل كاذب. وتارة من غرض فاسد وهوى متبع، فهي من عمى في البصيرة وفساد في الإرادة. ولا ينجي من هذه الفتنة إلا تجريد اتباع الرسول، وتحكيمه في كل أمور الدين ظاهرة وباطنة.

أما النوع الثاني من الفتنة ففتنة الشهوات. وقد جمع سبحانه بين الفتنتين في قوله: (كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوالًا وَأَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ). أي تمتعوا بنصيبهم من الدنيا وشهواتها، والخلاق هو النصيب المقدر ثم قال: (وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا). فهذا الخوض بالباطل، وهو الشبهات. فأشار سبحانه في هذه الآية إلى ما يحصل به فساد القلوب والأديان من الاستمتاع بالخلاق، والخوض بالباطل، لأن فساد الدين إما أن يكون باعتقاد الباطل والتكلم به أو بالعمل بخلاف العلم الصحيح. فالأول: هو البدع وما والاها، والثاني: فسق العمل. فالأول: فساد من جهة الشبهات والثاني: من جهة الشهوات ولهذا كان السلف يقولون «احذروا من الناس صنفين: صاحب هوى قد فتنه هواه، وصاحب دنيا أعمته دنياه». قال تعالى: (وَجَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكانَ رَبُّكَ بَصِيراً). وكانوا يقولون «احذروا فتنة العالم الفاجر، والعابد الجاهل، فإن فتنتهما فتنة لكل مفتون». وأصل كل فتنة إنما هو من تقديم الرأي على الشرع، والهوى على العقل. فالأول: أصل فتنة الشبهة، والثاني: أصل فتنة الشهوة، ففتنة الشبهات تدفع باليقين، وفتنة الشهوات تدفع بالصبر ولذلك جعل سبحانه إمامة الدين منوطة بهذين الأمرين، فقال: (وَجَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَكانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ). فدل على أنه بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين. وبكمال العقل والصبر تدفع فتنة الشهوة، وبكمال البصيرة واليقين تدفع فتنة الشبهة.

أما الفرق بين الفتنة والاختبار: هو أن الفتنة أشد الاختبار وأبلغه، ويكون في الخير والشر ألا تسمع قوله تعالى: (أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ). وقال تعالى: (لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً* لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ). فجعل النعمة فتنة لأنه قصد بها المبالغة في اختبار المنعم عليه بها كالذهب إذا أريد المبالغة في تعرف حاله أدخل النار، والله تعالى لا يختبر العبد لتغيير حاله في الخير والشر وإنما المراد بذلك شدة التكليف.

وأما الفرق بين الاختبار والابتلاء: فهو أن الابتلاء عادة لا يكون إلا بتحميل المكاره والمشاق. والاختبار يكون بذلك وبفعل المحبوب ألا ترى أنه يقال اختبره بالإنعام عليه ولا تقول ابتلاه بذلك ولا هو مبتلى بالنعمة كما قد يقال إنه مختبر بها ويجوز أن يقال: إن الابتلاء يقتضي استخراج ما عند المبتلى من الطاعة والمعصية، والاختبار يقتضي وقوع الخبر بحاله في ذلك، والخبر العلم الذي يقع بكنه الشيء وحقيقته فالفرق بينهما بين. والفتنة تأتي أيضا بمعنى الابتلاء كما في قوله تعالى: (الم* أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ* وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ).

copy short url   نسخ
19/01/2024
25