+ A
A -

في سؤال المقال السابق، عن صلاة وائل حلاق على النبي صلى الله عليه وسلم، أشير هنا إلى جواب حلاق الذي يحتاج شرحاً مطولاً في انحيازات العالم الغربي، حيث أكد أهمية النظر إليه في منظور الأكاديمية الغربية (كمسيحي وليس مسلما)، لأن تقييم الرؤية هنا يختلف.

أما الزاوية الأخرى، فهي أن حلاق الذي اشتهر بهدم الكليات الكبرى، لفلسفة الحداثة وبرد الاعتبار لروح الشرق، يجد أنه من المبرر الأخلاقي له، كونه يشارك في حوار الحضارة الإسلامية التي ينتمي لها اجتماعيا وقومياً، أن يُدرج أدب الحديث وبروتوكول الأخلاق اللائقة، حين يتناول خطابه أمراً متعلقاً بنبي الأمة صلى الله عليه وسلم، بمعنى حين نلاحظُ اليوم أن جزءًا من أدب أو سلوك المراسلات على سبيل المثال، لا يُقبل بافتتاح يُصدّر بالسلام عليكم.

مع أن هذه التحية في الأصل غاية في اللطف، وفي المبادرة للتعايش والتعارف، ومن الخطأ رهنها بمخاطبة المسلمين وحسب، ومع ذلك نرى اليوم أن أوساطاً إسلامية عديدة، حين تدخل عالم البحث ومأسسته، تعتمد ترجمة التحية الغربية في المراسلات البروتوكولية، ولستُ اتحدث عما هو بداخل وائل حلاق، ومعتقده الذي يعيشه في جوانيته، ولا أزعمُ انني سمعتُ منه ذلك، لكن أرى هذا السلوك منه ومن جورج صليبا في هذا الاتجاه الأخلاقي.

القضية هنا هي أهمية أن نوجه الفهم لما يقوله ويحرره الفلاسفة الأخلاقيون أولاً، في دفاعهم الضمني أو العام عن الفلسفة والحضارة الإسلامية، بغض النظر عن معتقدهم الديني، وهذا لا يعني أنني أضيقُ بتمني الخير، لكل من يعتقد بدينٍ غير الإسلام، بل نفرح بدخوله وهذه المشاعر نبيلة في أصلها، لكننا في ذات الوقت نرى لدى البعض الإسلامي، مشكلة كبيرة حتى اليوم، في قبول أن يُحرّر حلاق مرافعات تاريخية، في الفلسفة الأخلاقية الإسلامية، التي اختتمها بالتحالف مع طه عبد الرحمن، بل خدم فلسفته وقدم لها سفراً كاملاً.

فهذا البعض لديه مشكلة أيديولوجية، ليست حزبية بالضرورة، ولكنها فكرة تَحفّز وغيرة، من كون أن حلاق اليوم، يتقدم كأحد رواد الدفاع عن الإسلام في الرواق الأكاديمي العالمي، وأنه أصبح أحد مصادر المعرفة الجديدة للشباب المسلم، هذا الاختناق الشخصي أو التراثي المستنسخ، لن يستطيع أن يتعامل مع فكر حلاق قبولاً أو نقداً بهذه الروح، ويحتاج أخلاقياً ومهنياً أن يتحرر من هذه الرؤية.

وقد أشرتُ شخصياً لزاوية نقد لرؤية حلاق، في مقالة نقدية لموقف طه عبد الرحمن، بشأن الفكرة المعممة عن فلاسفة التنوير الغربي، وكليهما استاذينا عبر السطور، ولكن هامش رؤيتنا النقدية نضعها بعد مسار الهدم والتفكيك، لمواصلة المسار الذي يليه في البناء والتفنيد، لإرث الفلسفة الغربية وهو ما أؤمن به، ونرى اختلافنا فيه مع هؤلاء العمالقة رصيف مهم، لكسر حكر الفلسفة المعرفية الإسلامية، في منظور الهدم المستحق لقواعد الحداثة الرأسمالية.

فهذا الهدم حين لا يقف عند ما هو إيجابي في بحثه الغربي، وفي تقاطعه العميق لنهضة الإنسان في تحقيق مفهوم الاستخلاف العمراني للكون، يُسقط ركناً مهماً، بل فارقاً موضوعيا تاريخيا لتميز وتفرد الفكرة الإسلامية، التي لا تمتنع مطلقاً عن مفهوم التكامل الحضاري، ويشملها قول النبي صلى الله عليه وسلم، (الحكمة ضالة المؤمن أنّى وجدها أخذ بها)، وما يؤيده من شريعة عملية في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وفي عمل الراشدين من أمته.

فهنا نُدرج مسار البناء والتفنيد بما فيه ميراث التراث، ضمن مناهج الضرورة لتفعيل سؤال الأخلاق في الرؤية الكونية الإسلامية، وإذ نطرح سياقات الهدم لفلسفة الحداثة، ثم سياقات البناء فإن الواقع الفكري اليوم في العالم الحديث، يعيش حالة اختطاف وحصار دولية، فالمهمة اليوم هي أن تتقدم منابر حثيثة، لمناظرات نوعية تسترشد بها الإنسانية، لتصل إلى تحديد محل النزاع، الذي تسفر فيه الحقيقة.

وهذا ما يفتقده الشرق، وينحاز ضده الغرب، فرغم أن مساحة التنظيم لهذه المنابر ممكنة، إلا أن المجتمع المسلم في الغرب متخلف عنها، بسبب عدم وجود ميزانيات وقفية أو تطوعية، أو بسبب استغراق المنتديات الإسلامية، في صراعات المشهد السياسي، أو حتى التربوي الخاص، في حين يفتقد الشرق، مساحة الحرية اللازمة، والحيوية المبادرة لندوات تخدم الفكرة وتوصل بجسر مع وسائل الاعلام.

ومشكلة هذا المشروع أو التوجهات التاريخية، أن كثيراً من العاملين في حقل المراكز الإسلامية، لا يدرك أن بداية صعود الغرب، هو اصطكاك جدله الذاتي، وتحرير رؤيته المعرفية عليها، فالأمر ليس نقاشاً ترفياً، ولكنه مركزٌ تأصيليٌ لمستقبل عالمي مختلف، يُنقِذُ به الإسلام ما تبقى من عمر البشرية.

copy short url   نسخ
07/01/2024
35