+ A
A -

ونَستسلِم، نَستسلِم أحيانا بسخاء لحيرة القلوب الطيبة حين تقف عاجزة، فلا تدري هي ولا ندري هل نعيب على آلة الفأس أن يدها من الشجرة نفسها تلك التي تحرص الآلة على غرز نابها فيها، أم نبكي الشجرة المسكينة التي من أين لها الدواء ومن بعضها الداء؟

مواقف مُرْهَفة كهذه ستُفجر يقينا نهرَ الدموع، ومتى؟ وأنتَ تَجِدُ جوقةً من أهل بيتك الكوكبي وبيئتك الإنسانية يتسابقون إلى جرحك، يجرحونك الجروح التي لا تَلتئم إلا بعد أن تَبني قِلاعا من النُّدوب، هي الندوب الشاهدة على وَجَعٍ كانَ، وعلى دمٍ نزفَ ومَلَأَ المكانَ.

هؤلاء وأمثالهم يجتهدون، يجتهدون اجتهادَ الشيطان، فإذا بدَهائهم يَسرق الأضواء، وإذا بغَدرهم يمتصّ صبرَك وينال من ثقتك في القدرة على مواجهة أيام صعبة تكاد لا تسعفك لتُحَدِّدَ الصديقَ من العدو.

البطولة في أن تَقوى على النهوض مجددا بعد كل سقوط، وهذا لأن المصائب لا تعمل فقط على أن تُمَزِّقَ حبلَ أفكارك بعد أن تَعصف بالمسافة الفاصلة بين دماغك ونخاعك الشوكي، وإنما تُلبِسك المصائبُ نفسُها تاجَ الحكمة حين تُعَلِّمُك الدرسَ، وتَقْرُصُ لَحْمَ أُذُنِكَ حتى لا تُكرر الخطأَ نفسه في معركة الزمن الذي يَستدرجك إلى الوقوع في الأخطاء تباعا.

رحمَ الله الشاعرَ بوطأة المصيبة ذاك الذي قال: «ما حكّ جلدَك مثل ظفرِك»، قالها وهو يوغل في الإيحاء بأنك المسؤول عن إصلاح نفسك من الألِف إلى الياء. أفليس لهذا يجدر بالأصول أن تَصبر على الفروع، كما على البعض أن يحتكم إلى سياسة الكل في إدارة النفس الزاحفة إلى التَّرَنُّح ضعفاً تَرَنُّحَ دودةٍ؟

عقاربُ ساعة الزمن تَدور، وأرقام الحظ ما عادت تبعث على الاتزان وتحسُّس جمال لحظات السرور، وليس سِواك القادر على أن يَخوض التحدي مع نفسه لِيُقَأوِمَ بَطْشَ النكبات، ويعتذر عن التَّنَبُّؤ بسِحرِ ما هو آت، ولا مَن يجادلك في الإيمان برحيل مَن كان يَنفخ في بوق القدوة الحسنة قائلا: «يا قوم، يا قوم اِسْمَعُوا وَعُوا، عُوا، عُوا».

في زمن موت القدوة، أو غيبوبته على شاكلة الجنين الراقد، كُنْ أنتَ قدوة نفسك، هَذِّبْها، اسمعها ولا تُطِعْها، صَيِّرْها طَيِّعَةً لتُنْصِت إلى صوت الرقيب في أعماقك، قَلِّمْ رغباتها المتوحشة، كاشِفْها، حاسِبْها، لا تَسمح للآخرين بقَوْلَبَتِها وتشكيلها على غير ما تَشتهي أصابعُ إرادتك، ماطِلْها حين تَستدعي الظروف، ولا تَجْعَلْ سيقانها تنكشف على محيط العار، العار الذي تَجدف إليه مراكبُ السُّعار.

لكل نَفْسٍ قائد، هو أنتَ، أنتَ لا غيرك، كُن كاتِبَ التاريخ المشرِّف لنفسك، ولا تَجْعَلْ حروبَ كلامِ الغوغاء تَستنزِف روحَك المتعَبة، لَمْلِمْ ما تَبَقَّى من طاقة إيجابية لِتَبْنِيَ أسوارَ الأمل، الأمل الواعد بمطر انغراسك كشجرة شامخة لا تنحنِي لريحِ قضاء زمن زائف رأى غيرُ أهلِ الحكمة أن يَقضوا به في غياب الفجر الصادق الذي يوقظ ديكَ المنطق النائم ويُعيده إلى سيرته الأولى.

سَامِحِينا يا شجرةَ الإنسانية، سَامِحِينا، فقد نفدَ الحطبُ الواعدُ بتدفئة قلوبهم الباردة، وليس أمامهم إلا الفأس قبل أن تَشتعل الغابة.

copy short url   نسخ
06/01/2024
55