+ A
A -
شاركت منذ أيام في مؤتمر أقامته «منظمة النهضة العربية»، إحدى منظمات المجتمع الأهلي الواعدة في الأردن، حضره عدد كبير من المفكرين والباحثين العرب، وشهد مناقشات هامة وثرية.
المؤتمر عقد تحت عنوان: «النهضة العربية: تجديد الرسالة الحضارية» ودارت مداخلتي فيه حول «جدلية العلاقة بين الداخل والخارج»، واستهدفت تفنيد نظرية المؤامرة وإثبات أن رواجها يعكس نوعا من الكسل العقلي ويعبر عن خلل منهجي يدفع العقل العربي للدوران في حلقة مفرغة.
لا جدال في أن العقل الجمعي العربي يختزن في ذاكرته صورا لمؤامرات خارجية عديدة: «اتفاقية سايكس-بيكو»، «وعد بلفور»، «مراسلات حسين ماكماهون»، «العدوان الثلاثي على مصر» وغيرها. ولأنها صور تذكرنا بمؤمرات حقيقية كشفت عنها وثائق تاريخية، فكثيرا ما يجري إسقاطها على أحداث معاصرة، كثورات «الربيع العربي» مثلا والتي يصر البعض على أنها نتاج مؤامرة خارجية، وهنا مكمن الخطورة، ولأن التوظيف الميكانيكي للنظرية التآمرية في تفسير الأحداث المعاصرة يؤدي إلى البلبلة وخلط الأوراق، تبدو الحاجة ماسة لنهج جديد يدرك عمق التداخل العضوي بين الداخل والخارج، خصوصا في منطقة تحتوي على العديد من العوامل الجاذبة لتدخل القوى الخارجية.
بدت لي تضاريس الواقع العربي الراهن، كما استعرضتها في مداخلتي، على النحو التالي:
1- فالإطار المؤسسي للنظام الرسمي العربي، ممثلا في جامعة الدول العربية، يبدو اليوم في حالة شلل كامل.
2-والقضية الفلسطينية، والتي كانت تعد قضية العرب الأولى، تمر اليوم بأحلك مراحلها وتبدو معرضة للتصفية النهائية.
3-والدولة الوطنية العربية مأزومة، بعد أن أصبح عدد كبير منها في عداد الدول الفاشلة، والباقي مشغول ومنكفئ على قضاياه الداخلية التي تتراوح بين مكافحة الفقر ومحاربة الإرهاب ومحاصرة الفتن الطائفية والسياسية.
4- والإنسان العربي محاصر، بدليل تعرض ملايين المواطنين إما للقتل أو النزوح أو التهجير القسري، وإما للجوع أو الموت غرقا في قوارب هجرة غير شرعية، وإما للاضطهاد والتعذيب في الأقبية المظلمة لسجون في الداخل.
5-والثروة العربية تتعرض للابتزاز والاستنزاف في صفقات سلاح لا يحقق أمنا، أو تهدر في عمليات فساد ونهب للمال العام، أو تبدد في شراء ولاءات سياسية في الداخل والخارج.
في سياق كهذا من الطبيعي أن يتوارى مفهوم الأمن القومي تماما وأن يصبح خاليا من أي مضمون. فكيف وصلت الأوضاع العربية إلى تلك الحالة البائسة؟ المنطق يفرض ضرورة التسليم بوجود أطماع ومؤمرات خارجية، والتسليم في الوقت نفسه بوجود ثغرات سمحت لهذه المؤامرات بالنفاذ واختراق الجدار العربي الهش.
قائمة هذه الثغرات تطول، لكن يمكن اختزالها وتلخيصها في الإشكاليات التالية:
أولا: إشكالية الهوية والانتماء: ويجسدها صراع محتدم بين التيارات الليبرالية والقومية والإسلامية. فالتيار الوطني يصر على أن الدولة «القطرية» هي الوعاء الوحيد المقبول لهوية جامعة ويبالغ كثيرا في رفضه للعروبة والإسلام إلى درجة تدفعه لاستدعاء الحضارات القديمة لإثبات خصوصية وتفرد كل شعب عربي على حدة، أما التيار العروبي فيرى أن الحدود القائمة بين الشعوب العربية مصطنعة ويجب العمل على إزالتها وإقامة الدولة العربية الواحدة، كما يرى أن كافة الشعوب العربية تنتمي إلى أمة واحدة تجمعها وحدة اللغة والتاريخ المشترك، أما التيار الإسلامي فيرفض الهويتين الوطنية والقومية معا ويرى أن الرابطة الدينية هي وحدها أساس الارتباط بين البشر وأن المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها يشكلون أمة واحدة عليها أن تسعى للتوحد تحت راية الخلافة. الخطورة هنا لا تكمن في وجود أطروحات فكرية مختلفة حول قضية الهوية، وإنما في ممارسة تستبعد الآخر المختلف؛ لذا تبدو الحاجة ماسة إلى مقاربة جديدة تستوعب الهويات الثلاث في مزيج واحد يؤكد تكاملها؛ فالدولة القطرية، حتى وإن كانت حدودها مصطنعة، هي أمر واقع ينبغي البناء عليه لإقامة شكل أرقي من اشكال الوحدة أو التكامل، ولكن وفق الإرادة الحرة للشعوب، والوحدة الإسلامية لن تحقق ابدا إلا إذا سبقتها وحدة عربية جامعة.
ثانيا: إشكالية الأقليات: ففي الدول العربية أقليات دينية وقومية وعرقية لها حقوق جماعية ينبغي احترامها حتى لا يشعر المنتمون لها بالاغتراب، ولأن شيوع الاستبداد في العالم العربي، متخفيا تحت شعارات وطنية أو قومية أو دينية، أدى في أحيان كثيرة إلى ظهور نزعات انفصالية شكلت تهديدا حقيقيا وخطرا على سلامة الدول والمجتمعات، فلن يكون بوسع الدولة في العالم العربي أن تستقر إلا من خلال احترام حقوق الإنسان عموما وحقوق الأقليات بشكل خاص
ثالثا: إشكالية التداول السلمي للسلطة: لم تعرف الدول العربية منذ حصولها على استقلالها، أي نوع من التداول السلمي للسلطة، والتي لا تنتقل من حاكم عربي إلى آخر إلا بالوفاة الطبيعية أو بالقتل والاغتيال أو بالانقلاب أو بالثورة، ولأن جميع النظم السياسية العربية الحالية تخلو من آليات تسمح بالتداول السلمي للسلطة، حتى في إطار الأسرة أو القبيلة أو المؤسسة أو النخبة الحاكمة نفسها، تبدو الحاجة ماسة إلى تجديد دماء النخبة الحاكمة.
فالقضية هنا لا تتعلق بغياب الديمقراطية بمعناها الغربي وإنما بسيادة منطق الاستبعاد الفكري والسياسي للأخر المختلف، وهي إشكالية تحتاج إلى حلول مبتكرة تأخذ في اعتبارها خصوصية وتنوع الدول والشعوب العربية.

بقلم: د. حسن نافعة
copy short url   نسخ
03/05/2018
2361