+ A
A -
ما من أحد إلا ويسعى لكي يكون الأحسن: العربي واللاتيني والأوروبي، المسلم والبوذي والمسيحي. البعض ينجح والبعض الآخر لا يتمكن إما لضعف الإرادة أو غياب الوسيلة أو لعدم توفر الشروط اللازمة والأخطر لو أوهم نفسه بأنه الأحسن. والبلدان العربية ليست الأحسن، وهذه حقيقة مرة. إلا أن الأمر منها تلك المقدمات التي تشير إلى أنها لن تكون حتى أحسن. هي الآن ليست الأحسن، لأن معايير التعليم والاقتصاد والأمن والحرية والثقافة والصحة والمعرفة والإنتاج حول العالم تقطع بذلك.
كما أن معظمها لن يكون أحسن مما عليه لأن دائرة الفشل المغلقة التي تلف فيها ما زالت تدور بل ويتسع قطرها كل عدة سنوات. ومن بين شواهد عديدة تؤكد هذا التشاؤم أتوقف عند أربعة.
أولها عدم وجود اتفاق على ما هو أحسن. هناك رغبات في الأحسن لكن لا يوجد إجماع على ملامحه. الإسلامي والعلماني، السني والشيعي، السوري واللبناني، الكردي والعربي. كلهم يتمنون الأحسن لكن كل بتعريفه. ولا يمكن لبلد أو منطقة أن تصبح أحسن إذا لم يكن هناك اتفاق مسبق على مواصفاته. فإلى الآن والأحسن يُعرف إما أيديولوجياً أو مذهبياً أو عرقياً أو طبقياً. الإسلاميون مثلاً يرون أن الوطن سيكون أحسن إذا طُبقت الشريعة بحذافير رؤاهم الصارمة. وهو ليس بأحسن عند قطاعات شعبية واسعة. أكراد العراق يرون المستقبل أحسن لو استقلوا فيما يعتبر باقي العراقيين ذلك أسوأ ما يمكن. الحشد الشعبي يرى الأحسن في انتصار المذهب الشيعي وتهميش السنة. البورجوازيات العربية ترى زيادة امتيازاتها الطبقية وليس تغيير توزيع الثروة القومية هو الأحسن. وفي ظل هذه الكثافة الأيديولوجية والمذهبية والعرقية والطبقية لا يزيد الحديث عن ما هو أحسن عن رغبات لا تتوفر لها شروط التحول إلى حقيقة.
الشاهد الثاني هو الانكماش المستمر لثقافة المجال العام. فلم يعد المجال العام فقط يضيق بسبب منع الناس من حرية التعبير والتنظيم والمشاركة، وإنما تعرضت ثقافة المجال العام نفسها للتراجع حينما اهتزت ثقة الناس في المواطنة وتراجع الانتماء إلى حيز أوسع ما اضطر كثيرون إلى البحث عن بدائل أخرى ضيقة يلتمسون فيها الهوية والحماية مثل القرية والمذهب والأسرة والطائفة. وبرغم أهمية تلك البدائل إلا أنها لا توفر حيز عام مناسب يصلح لاتفاق الجميع على ما يعتبر الأحسن.
الشاهد الثالث أن استعداد الدول العربية للقبول بالتنوع والتعددية في تراجع مستمر. فهناك رفض متبادل بين طوائف ومذاهب وجماعات بل ودول. وهناك أيضاً أحادية سياسية تفرض نفسها بالقوة. واحتكار للسلطة والإعلام. وتشويه مفرط لكل صوت معارض. وصراعات مستفحلة بين دول تبدي الانزعاج حتى من برنامج تليفزيوني. وتغذية لخطاب التجريح والطعن والافتراء. وكل هذه الشواهد السلبية تظهر مدى تبرم الذهنية العربية بالتباين والتنوع. ولا يمكن للتبرم بالآخر أن ينتهي باليقين إلى وضع أحسن وإنما على النقيض إلى ما هو أفدح وأسوأ.
والشاهد الرابع هو الاستحضار المتواصل للتاريخ بكل ما فيه من أخطاء. ومن يسقط في بئر التاريخ وما فيه من روايات آسنة وجدل عقيم غالباً ما يهمل المستقبل ويعجز عن استيعاب معنى كلمة «أحسن». ومع أن معظم الدول العربية عاشت لأكثر من قرن مع التحديث إلا أنها لم تستطع أن تغير قماشتها. جلبت أدوات عالمية جديدة لكنها فشلت في أن تنسج بها قماشة مختلفة فراحت تعيد حياكة قماشتها الثقافية القديمة بكل ما فيها من بقع ورقع مثل العصبية والمفاخرة والشللية والتشفي.
هذه الشواهد الأربعة لابد وأن تدفع إلى التشاؤم. ولو أضيفت إليها شواهد أخرى مثل الاختراقات الأجنبية وتدخلات القوى الإقليمية وتلكؤ النخب العربية فلا يمكن بحال من الأحوال توقع ما هو أحسن. لكنه مع ذلك تشاؤم خلاق لأنه يلفت إلى حدود ما يمكن إنجازه وينبه المتفائلين إلى التخلي عن أحلامهم الوردية. في السياسة مثلاً لم يعد ممكناً بناء الديمقراطية ولذا فأحسن ما نستطيع قد لا يزيد على ضمان الاحترام. وفي الدين لن تستطيع العلمانية ولا الدولة الدينية تقديم حل أحسن. ولهذا يكفي أن تعود الدولة المدنية لأداء وظائفها الأخلاقية العامة. ومثل هذا التواضع في تعريف الأحسن ليس بمهرب من العمل وإنما تحديد لنطاق الممكن.
يحتاج ما هو أحسن لأن يُعرف بشكل عملي بعيداً عن أصحاب الأيديولوجيات والمذاهب وراغبي الحكم المطلق. وقد لا يزيد في ظل السياق العربي المرعب حالياً على سبيل المثال عن سقوط قتلى أقل وليس وقف القتال، وتنقل أسهل وليس فتحاً كاملاً للحدود، وخروج آمن من المستشفيات وليس بالضرورة الشفاء، والحصول على وظيفة وليس بالضرورة دخلاً. لكن حتى هذا الأحسن برغم بساطته ومشروعيته سيبقى تحدياً جسيماً طالما بقى النحر والتناحر العربي مستمرين.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
09/04/2018
2126