+ A
A -
- 1 -
أصبح الحديث عن مُحاربة الفساد في كُلِّ مؤسَّسات الدولة السودانية، هو القضية الأساسية التي يتمُّ تناولها في المُخاطبات السياسية وفي الأجهزة الإعلامية.
في الفترات السابقة، كانت الحكومة السودانية على جميع مستوياتها، تنفي وجود عمليات فساد مُنظَّمٍ في أجهزتها، وتَصِفُ ما تتمُّ الإشارة إليه في تقارير المُراجع العام بالتجاوزات المحدودة.
ترتَّب على ذلك اتهام الحكومة بالتراخي في إدارة الملفِّ بكُلِّ جدية وحزم، حتى تنقل محاربة الفساد من مستوى الشعار إلى واقع التطبيق.
- 2 -
بعد اعتراف الحكومة في أعلى مستوياتها بوجود شبكات الفساد المُنظَّم، أصبح الظرف مُواتياً لتسليط الضوء في كُلِّ الأماكن المُعتمة والزوايا المُظلمة، التي تختبئ فيها خفافيش الفساد. قُلنا من قبل: الخطأ الأكبر الذي ظَلَّتْ تقع فيه الحكومة السودانية، أن تجاوزات منسوبيها – في كل مستويات إدارة شأن السلطة – كانت تُرحَّل (للحساب العام) ولا يُسدِّدُها المُخطئون من حساباتهم الشخصية بالجزاء والعقاب!
وأفضلُ تلخيصٍ توصيفيٍّ لهذا الأمر، ما قاله الأستاذ المحامي القيادي الإسلامي أمين بناني، في حوار صحفي أُجري معه عندما كان يشغل منصب وزير الدولة بوزارة العدل. قال بناني، إن الحكومة كانت دوماً تسعى لمُمارسة (فضيلة الستر) مع أخطاء وتجاوزات منسوبيها ولكنها – من حيث لا ترغب – وقعت في (جريمة التَّستُّر).
يبدو أن حديث مُعارضي الحكومة وشانئيها المُتكرِّر عن الفساد والتجاوزات، واستخدام ذلك في معارك السياسة، جعلها تتعامل مع هذا الملفِّ بقليلٍ من الحساسية، باعتبار أن كُلَّ ما يُقال ما هو إلاّ مُحاولات عدائية لضرب مشروعها الوجودي، بتشويه صورتها الأخلاقية. وبذا أصبحت (المناعة) التي اكتسبتْها ضدَّ أخبار واتهامات الفساد، مظلة مناسبة لبعض المُفسدين لتمرير أخطائهم وتجاوزاتهم بهدوءٍ، لا سيما أن الجسد السياسي أنتج من الأجسام المُضادَّة ما هو كفيلٌ بدحر كُلِّ الاتهامات بتصويرها مكائد سياسية. وكان العقلاء يقولون: إذا لم تقم الحكومة بدورها كاملاً، في القيام بمُهمَّة التمييز بين الخبيث والطيب، والصالح والطالح، والنزيه والفاسد؛ ستقوم بهذه المهمة جهاتٌ أخرى، ستفعل ذلك دون ضوابط ولا أخلاقيات، عبر سلاح الشائعات، وتفسيد الجميع.
قانون الثراء الحرام من القوانين التي بإمكانها أن تُعدَّل وتُفعَّل، لأداء مُهمَّة مكافحة الفساد بصورة مهنيَّةٍ خاليةٍ من الأغراض والشوائب واتهامات الزور.
-3-
في الصين عندما كَثُرَ الحديث عن فساد بعض قيادات الحزب الشيوعي في الولايات الصينية، لم يكن أمام قيادة الحزب سوى أن تُطلق أقلام الصحافة لتقوم بتنظيف صفوف الحزب من المفسدين، ونَقَلَ الحزبُ ملفَّات المتجاوزين إلى القضاء لتَصدر أحكامٌ بالإعدام في مُواجهة قيادات نافذة داخل الحزب. وكان في السابق يُحاسَب أمثالُهم في الغرف التنظيمية المُغلقة، ويتحمَّل الحزب تسديد الفواتير السياسية نيابةً عنهم.
- 4 -
الرئيس السوداني عمر البشير تحدَّث لأوَّل مرَّة عن شبكات الفساد المُنظَّمة، وذات الصلة بالجهاز المصرفي، وقال بصريح العبارة، إن مُحاربة الفساد لن ينجو منها أحد من المُتورِّطين.
بنظرةٍ على قائمة المُحتجَزين قيد التحري في اتهامات بالفساد، ستكتشف جديَّة هذه الحرب التي لم يسلمْ منها حتى بعض أقرباء قيادات في الدولة والحزب.
إعلان رئيس القضاء السوداني مولانا حيدر دفع الله، تشكيل محكمة مُختصَّة بقضايا الفساد، خطوةٌ شجاعةٌ يجب الوقوف معها وعدم تبخيسها، إلا إذا ثبت عدم جدواها في واقع العمل، لا في حيِّز النوايا والظنون.
من المُهمِّ مُشاركة الجميع في دعم هذه الحملة، إلى أن تصل إلى منتهاها.
وحتى تُسهم الحكومة في ترسيخ ثقافة مُكافحة الفساد، وتنفي عنها شُبهة تصفية الحسابات السياسية، عبر سكِّين مُحاربة الفساد، يجب أن يكون هذا التوجُّه توجُّهاً عاماً وشاملاً، لا حملات مُؤقَّتة بزمن، ومُحدَّدة بأشخاصٍ مُنتقين. الفساد تمكَّنَ وقويَ وتحوَّلَ من تجاوزات أفرادٍ إلى عمل جماعي مُنظَّم، وذلك لضعف منظومة النزاهة في الدولة السودانية، لعدم وجود المُحاسبة الدقيقة والعقاب الرَّادع.
استمرار ضعف منظومة النزاهة وانخفاض مستوى الشفافية، هو ما يجعل بيئة الدولة السودانية حاضنةً جيِّدةً ل «القطط السمان» و«فئران الخراب».
- 5 -
الأهم من اصطياد القطط السمان، إغلاقُ منافذ الإمداد التي تسمح بتسمين قططٍ أُخرى، ومحاربة الظاهرة في طورها الأوَّلي، قبل الوصول لمرحلة السمنة والتمكين، وقبل أكل اللحم وشُرب اللبن وانكسار الإناء.
أهل الصِّحة يقولون إن الوقاية خير من العلاج، وأهل الإدارة يُقرِّرون أن الحماية أجدى من العقاب، ولأهل المحروسة نصيحة راسخة (حرِّص وما تخوِّن)، ولأهلنا السودانة حكمة ناجعة (المال السايب بِعلِّم السرقة).

بقلم : ضياء الدين بلال
copy short url   نسخ
08/04/2018
2090