+ A
A -
لم تعد المخاوف الأمنية الأوروبية مجرد هاجس، بل صار الأمن مسألة جوهرية تتطلب من دول القارة القديمة اتخاذ إجراءات لتوفير الحماية والدفاع؛ لهذا خرج الحديث عن ضرورة وجود جيش أوروبي موحد من الغرف المغلقة إلى المحافل العلنية.
المستشارة الألمانية انغيلا ميركل والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وجها دعوة صريحة بهذا المعنى في مؤتمر ميونيخ للأمن، ولاقت دعوتهما صدى إيجابياً من زعماء هنغاريا وبولونيا وتشيكيا وسلوفاكيا، خصوصاً من تلك الدول التي خرجت للتو من القبضة السوفياتية، وتخشى أن تجدد روسيا مطامعها في أراضيها على غرار ما حدث في أوكرانيا وجورجيا.
هؤلاء القادة يرون أن تشكيل جيش أوروبي موحد، هو الرد الطبيعي على المخاوف التي تطارد الشعوب الأوروبية، نتيجة التهديدات المتزايدة من المنظمات الإرهابية، ومن توترات الشرق الأوسط المجاور لهم، ومن العمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، ومن دعوات التقسيم على أساس عرقي أو جغرافي.
وجيش كهذا من شأنه الدفاع عن القيم الأوروبية وترشيد الإنفاق العسكري وتعزيز اندماج الدول الأعضاء في الاتحاد، وتوحيد سياسات الاتحاد على المستوى الخارجي.
هذا الهاجس، تلاقيه رغبة ألمانية باقتناص لحظة تاريخية لا تتكرر.
انغيلا ميركل ترى في خروج بريطانيا من النادي الأوروبي، فرصة فريدة كي تعمل على جعل الاتحاد نوعاً من الرايخ (امبراطورية قارية تحت زعامة برلين)؛ فألمانيا اليوم هي قاطرة الاقتصاد الأوروبي، وهي التي تحدد جدول الأعمال السياسي للقارة العجوز، ولا ينقصها لتأكيد ريادتها سوى جيش كبير حرمت طويلاً من إمكان إنشائه.. إنها اللحظة المناسبة لانعتاق ألمانيا من عنق زجاجة حلف الناتو بقيادة واشنطن.
مثلها ماكرون الرئيس الشاب الطموح والذي تملك بلاده قدرات نووية، يرغب في تعزيز مكانة بلاه أوروبياً ودولياً، والسبيل لذلك هو الفوز بزعامة الاتحاد، عبر تأسيس جديد لأوروبا ذات سيادة وموحدة وديمقراطية، وتأسيس جيش مشترك واتباع سياسة مالية مشتركة، وتعيين وزير مال مشترك في منطقة يورو كبيرة.
محور باريس- برلين، هو أساس مستقبل الجيش الأوروبي، وتأخر التحاق العواصم الأوروبية الأخرى بركبه، مسألة وقت ليس آلا. لكن هذا الطموح دونه عجز الدول الأوروبية عن صوغ سياسة أمنية موحدة، وضعف البنية العسكرية الأوروبية وافتقار دول الاتحاد إلى قدرات النقل الاستراتيجي والأقمار الاصطناعية والقيادة المركزية. كما أن الجيش الألماني يتكون من 180 ألف جندي فقط، وهذا لا يتناسب مع دولة تسعى لتكوين جيش أوروبي كبير ستضطلع بالدور المركزي فيه.
ولا شك في أن صعود اليمين الأوروبي سيعزز التقوقع أو سيثير المخاوف من خلق جيش نازي جديد. وإذا كان التنسيق والتشاور الفرنسي– الألماني هو سيد الموقف حالياً، فإن أحداً لا يضمن ألا يتحول هذا الود إلى تنافس وصراع على القرار والهيمنة، كما أن واشنطن لا يرضيها أن ترى جيشا أوروبياً خاصاً يسيطر على القارة القديمة التي تعتبرها مجالها الحيوي، فإن خسرت هذا الموقع الاستراتيجي المصنف قلب العالم، تكون قد خسرت عماد قوتها وهيمنتها العالمية.
في أي حال، إن التوجه الأوروبي الجديد بغض النظر عن أسبابه والنتائج التي سيؤول إليها، ليس إلا مؤشراً من مؤشرات عدة على نظام عالمي يتغير ويسير خطوة خطوة نحو نظام مختلف ركيزته تعدد القطب، ولأوروبا دور محرك فيه.

بقلم : أمين قمورية
copy short url   نسخ
30/03/2018
2255