+ A
A -
دخلت الحرب في سوريا عامها الثامن دون أن تلوح في الأفق أية نهاية، بل موجات جديدة من هذه الحرب العبثية.. التحركات السياسية لم تتوقف، ولكنها تفرقت بين مسارات مختلفة، والتحركات العسكرية لم تتوقف أيضاً، ولكنها ازدادت ضراوة، والخسائر البشرية وصلت إلى أرقام لا يتخيلها عقل بشر، ونحن في القرن الواحد والعشرين.
مع أحدث فصول المأساة حيث العمليات العسكرية في الشمال والجنوب، سواء في عفرين أو الغوطة الشرقية، تتحدث تقارير إعلامية موثوقة عن تهجير جماعي للآلاف من السوريين فراراً من استمرار العمليات العسكرية، رغم كل ما صدر عن المجتمع الدولي من الاتفاق على هدن. هناك نحو 30 ألف شخص فروا من عفرين، و20 ألفاً فروا من الغوطة الشرقية هرباً من الحرب الدائرة بين قوات الجيش السوري (قوات النظام) وفصائل المعارضة المسلحة، والأرقام في تزايد بالطبع في ظل صمت وعجز المجتمع الدولي عما يجرى. وهكذا بلغ عدد من شردتهم الحرب ما يقرب من 12 مليون شخص منهم نحو 6 ملايين نازح داخلي ومثلهم خارج سوريا. ووصل عدد القتلى ما بين 400 ألف و500 ألف شخص.
في نهاية المطاف ستتوقف التحركات السياسية عند نقطة معينة، ويرفع السياسيون أياديهم عن القضية، وكذلك ستتوقف العمليات العسكرية ويرفع العسكريون أياديهم عن القضية أيضاً، ولكنهم جميعا سيكونون قد شاركوا بنسب مختلفة في جريمة إنسانية تصل إلى حد النكبة.
دولة مركزية تبدو موحدة شكلاً من حيث المسمى، على رأس مجتمع ممزق، غارق في ميراث الموت والدمار والانكسار، منقسم إلى مناطق تأخذ قرارها من الخارج عالمياً كان أم إقليمياً، ومستقطب بين فسطاطين، فسطاط الموالاة وفسطاط الممانعة.
بعد أن تسكت المدافع ويتوقف السياسيون عن الكلام، لنا أن نتخيل مشاعر ومواقف الملايين الذين تم تشريدهم سواء النازحون إلى الداخل أو إلى الخارج. هي بالقطع مشاعر ومواقف سوداوية تحلم بوطن ولا تجده، وبحياة معيشية أفضل ولا تجدها، وبترابط اجتماعي، لطالما عاشوه منذ آلاف السنين، وقد تمزق حيث الأسر والعائلات كل في مكان سواء في الداخل أو الخارج.
هذا التهجير المناطقي الجماعي المثخن بالضغائن، نتيجة ما تعرض له من تشريد وأذى، هو أخف وطأة من حالة اللاجئين، ربما من ذهبوا إلى الخارج يتمتعون بالمزايا التي يتم منحها للاجئ، ولكن من نزحوا إلى الداخل لا يتمتعون بشيء من هذا القبيل وينتظرون فقط المعونات التي تصلهم عن طريق المجتمع الدولي، وفي غالب الأحيان لا تصل، وهو نوع من العقاب يضرب كرامة الإنسان في مقتل.
من بيدهم أمر الأزمة مشغولون دائماً بحسم الصراع على الحكم وشكله مستقبلاً، وهذا صحيح ولا تثريب عليه، ولكنهم لا يضعون في حساباتهم النتائج المستقبلية لتداعيات ما بعد انتهاء الأزمة، مع أن هذه التداعيات هي الفصل المؤجل من الأزمة الذي سيفرض نفسه لا محالة على الجميع.
التهجير الجماعي وتغيير التركيبة السكانية بالقوة لا يقل ألماً وحزناً عن حجم الضحايا الضخم الذي جعل ثمن هذه الحرب باهظاً.
الخطأ في صمت المجتمع الدولي أو تقاعسه ليس أخلاقياً فقط، وإنما سياسي أيضاً على عكس ما يتصور من يخططون في هذه العاصمة أو تلك لمستقبل سوريا، لأنه بافتراض التوصل في النهاية إلى حل، سواء كان سياسياً محضاً أو عسكرياً بطعم السياسة، لا يمكن تجاهل المشكلات الكبرى التي تترتب مستقبلاً على تغيير التركيبة السكانية لسوريا؛ لأنها مشكلات اجتماعية واقتصادية شديدة الصلة بحياة الناس بعد أن تسكت المدافع، فمن خلالها تنتقل الحرب من أطرافها القديمة إلى أبناء المجتمع ذاته الذين لم يكن لهم يد في المأساة من الأصل. ومثل هذا النوع من التداعيات لا يستطيع أحد أن يزعم بأن لديه حلاً سحرياً للتغلب عليه، ومن هنا سيجد المجتمع الدولي نفسه في خضم أزمة أخرى لا تقل خطورة عن الأزمة الحالية وهي كيفية تحقيق التعايش بين السوريين مستقبلاً بالقدر الذي يمنع تكرار المأساة.
بقلم : د. عبدالعاطى محمد
copy short url   نسخ
24/03/2018
2243