+ A
A -
بنهاية الحرب العراقية الإيرانية في 1988 جرت محاولات لإعادة إعمار المناطق المهدمة في العراق.. وبعد سقوط نظام صدام حسين في 2003 انعقد أكثر من مؤتمر للمساهمة في إعادة إعمار العراق.. وبعد الإعلان عن هزيمة داعش في ديسمبر 2017 تجدد الحديث عن إعادة إعمار العراق، فكان أن انعقد لهذا الغرض مؤتمر في الكويت قبل أسبوعين استهدف جمع 88 بليون دولار.. لكن المؤتمر لم يسفر إلا عن وعود بتوفير 30 بليون دولار فقط..
وقد دفع تواضع المساهمات بوزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري إلى القول إن المبلغ وإن كان ليس قليلاً، إلا أنه لا يسد سقف الحاجة وأن حجم الطموح كان أكبر بكثير.
وكم هو مؤلم أن يُدعى لإعادة إعمار العراق ثلاث مرات خلال ثلاثين عاماً.. وفي كل مرة كان يُدعى فيها إلى إعادة الإعمار إلا وتلتها مرحلة كثر فيها الدمار.. لكن الأشد إيلاماً أن نجد العراق، الزاخر بالثروات، ينتظر إحسان المانحين في حين أنه كان يستطيع أن يكون واحداً من بينهم.. كان يفترض من العراق بثرواته الكبيرة أن يساعد في تعمير البلدان المدمرة، وألا يهوي إلى طلب المساعدة لنفسه.. الناتج المحلي الإجمالي العراقي في 2017 مثلاً بلغ نحو 660 بليون دولار.. لكن تلك الثروة الضخمة، مثل مثيلاتها في أكثر بلدان المنطقة، لا تنفق برشادة وإنما كثيراً ما تضيع في غزوات وملذات ونزوات.. صدام حسين أضاع كثيراً من أموال بلده في الغزوات.. خاض حرباً عقيمة ضد إيران، وشن غزواً أحمق على الكويت.. وكذلك أضاعها على الملذات، فبنى قصوراً باهظة جرى نهبها لما سقط ودشن برامج استعراضية مكلفة لم تحمه من الفشل.. ولم يعالج سقوطه المشكلة، بل فاقمها..استمرت إضاعة الأموال العراقية في غزوات من نوع جديد جرت هذه المرة بين الطوائف. وضاعت أيضاً على ملذات ومتع كانت الطبقة السياسية الجديدة تتحرق شوقاً من أجل إشباعها.. زد على ذلك أنها ضاعت في نزوات فاسدة وضعت العراق في المرتبة 166 من بين 176 دولة ليكون من أكثر البلدان فساداً وفق تقرير حديث لمنظمة الشفافية الدولية.
مثل هذه الغزوات واللذات والنزوات هي التي أفقرت العراق وجعلته، برغم ثرائه، ينتظر دعم المانحين.. والأمر لا يخص العراق وحده، وإنما يعكس حالة عربية.. فهناك مؤتمرات عديدة انعقدت ونداءات متكررة ارتفعت من أجل إعادة إعمار بلدان مثل لبنان وسوريا والأراضي الفلسطينية والصومال واليمن وليبيا، ما يؤكد أن الدول العربية غنية فقط نظرياً وفقيرة جداً فعلياً.. حتى الدول العربية الغنية فعلياً لم تعد كما كانت ويخشى أن تصبح أسوأ مما هي عليه اليوم. فبعضها مازال ينفق على حروب لم تكن لها ضرورة ويتساهل مع ملذات ونزوات جامحة برغم حديثه عن مكافحة الفساد.
وحتى لو افترضنا أن الشفقة ستسكن قلوب المانحين فلا ينتظر أن تكلل جهود إعادة الإعمار بالنجاح مهما جمعت من مال قبل أن تبدأ عملية شاملة لإعادة إعمار العقول.. إعادة إعمار العقول يجب أن تسبق توفير أي مال منقول.. فلا قيمة لإعادة إعمار الحجر ما لم يتم أولاً إعادة إعمار البشر.. وتحتاج الدول العربية قاطبةً إلى إعادة إعمار واسعة للعقول.. إلى تصفية كاملة للتفكير الطائفي ورد الاعتبار للتفكير الرشيد.. إلى الإيمان بقيمة العقل وتحجيم التطرف الفكري.. إلى تصور جديد للحياة واقتناع بأولوية العلم.. إلى إطلاق للحريات وبناء مدارس وجامعات جديدة.. إلى تنظيم جرئ للعلاقة بين الدين والسياسة وتنظيم لا يقل عنه جرأة للعلاقة الأخرى الشائكة بين العسكرية والسياسة.. إلى إيمان صادق بالمساواة بين الرجل والمرأة وبين المسيحي والمسلم.. إلى قضاء على كل صور النعرات.. إلى استيعاب معنى المواطنة وقيمة الوطن.. إلى عقول تفكر في التنمية والعدالة والحرية والخير العام وليس في تعمد الإضرار.
وتحقيق مثل هذه الأماني ليس سهلاً ليس فقط عربياً بل وحتى إنسانياً. لكن يجب أن يستمر التذكير بأهميتها حتى تستقر في الوعي العام قناعة بأن ما يرصد من مال في مؤتمرات إعادة الإعمار لن يعصم الدول المدمرة من السقوط مجدداً ما لم تتقدم، أو على الأقل تتزامن، إعادة إعمار العقل مع إعادة إعمار المدن.. سيبقى إعمار العقل هو المعيار الأصوب لتقييم النجاح حتى تهتدي الدول المدمرة إلى مجتمعات تقدر اقتصاد المعرفة وسياسة المعرفة وثقافة المعرفة وعسكرية المعرفة فلا تسقط من جديد كالذبائح في صراعات متكررة وإنما تنطلق لتلحق بموجات الاقتصاد والتقنية والتصنيع العالمية الجديدة.. مجتمعات تنشغل بالغد لا بالأمس.. بتقدم الأنا وليس بتخلف الآخر.. فبدون إعادة إعمار عميقة للعقول سيبقى كل مال يجري تجميعه في مؤتمرات المانحين على أهميته محدود الأثر.
بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
26/02/2018
3329