+ A
A -
نعني بهذا المعجم معجماً بسـيطاً يشرح الكلمات حسـب المفاهـيم السائدة التي يحتاجها الكاتب، ونترك الشروحات الأخرى في المعاجم القديمة لهواة الشعر والأدب، وكنت قد نشرت بضع حلقات منه تحت عنوان «المعجم الذي نحتاجه» ثم ارتأيت أن أغير الاسم إلى «لسان العر ب 21» ولسان العرب كما تعلمون أشهر معجم عربي، حتى إن الزبيدي كثيراً ما يرجع إليه في معجمه الذي ينافس اللسان شهرة «تاج العروس من جواهر القاموس» وأود بهذه المناسبة أن أذكـّر بالخطأ الشائع، وهو تسمية المعجم قاموساً، فيقول لك أحدهم «بحثت في القاموس» ولا يدري أنه بقوله هذا يحصر الأمر بالقاموس المحيط للفيروزأبادي، وكان ذكياً في تسمية معجمه، فالقمْس والقموس: الغوص، والقاموس هو البحر، فكأنه سماه «البحر المحيط».
ما أكثر «البوح» في قصص الحب والعشاق، وفي الشعر العربي الذي صور لنا قصص العشق الرائعة، وكثيراً ما قرأنا «فباح لها بحبه» ونقرأ كثيراً في الأدب العربي «باح له بمكنونات صدره، أو بسره».
باح الشيء: ظهر، وباح بسرّه بوْحاً: أظهره، ويشتق منه: أباحه سرّاً: بثـّه السرّ ولم يكتمه، ونعرف «الإباحة» وهي التخلية بين الشيء وطالبه، وتقابل في الأحكام الشرعية «التحليل» أي أن يكون الشيء حلالاً، والأصل في الإباحة: إظهار الشيء ليتناوله من شاء، ومنه «المُباح» وهو غير المحظور. ونسمع في الأخبار ونقرأ في التاريخ «فاستباحوا المدينة» أي انتهبوها، وأخذوا المحرّم عليهم.
ومن الاشتقاقات «باحة الدار» وقد نكتفي بالقول «الباحة» ونعني الساحة، ونذكر كلمة لا تستخدم كثيراً وهي «العَرْصَة»، ونتجنبها لأن لها معنى قبيحاً في العامية، وعرْصة الدار: وسطها، وقيل: كل بقعة بين الدور واسعة لا بناء فيها. ونقول أيضاً «بحبوحة» بفتح الباء، وهي أساساً مضمومة «بُحبُوحة» ونقرأ: عاش في بحبوحة، وهي في الأصل: وسط المحَلـّة، وبحبوجة الدار: وسطها. وفي الحديث «من سرّه أن يسكن بُحبوحة الجنة فليلزم الجماعة» والتبحبح: التمكن في الحلول والمقام.
ولكننا لا نحتاج إلى معرفة أن «الباحة» هي النخل الكثير، ولا إلى أن «البُوح» الأصل أو النفس، ولذلك قالوا: ابنُك ابنُ بُوحك، أي ابن نفسك لا من يُتبَنّى، وقالوا إن البُوح هنا جمع باحة الدار. ولا إلى معرفة أن القول: وقع القوم في دُوكَة بُوح: أي في اختلاط في الأمر، ولا إلى أن «البُوح» اسم الشمس، ولا إلى أن «الباحة» تعني قاموس الماء ومعظمه. ونعرف في العامية فعل «تبحبح» أي زاد، ولذلك يقول السوريون «بحبحها شوي» أي: زدْ فيها قليلاً، وفي المعجم: تبحبح في المجد: أي هو في مجد واسع. وبالمناسبة ثمة نوع من السمك يسمى في قطر «بْياح» وهي تسمية عربية فصيحة، و»البِياح» ضرب من السمك صغار لا يزيد طول الواحدة عن شبر، وهو أطيب السمك. ولا نحتاج إلى «باحهم وتركهم بَوْحى» أي: صرعهم وتركهم صرْعى.
يرد في الأخبار أحياناً اسم مدينة يمنية «أبّ» والحقيقة أنها «إبّ» بكسر الهمزة وليس بفتحها. ونعرف «الأب» بتشديد الباء أو دون تشديد وهو الوالد، ونشتق منه «الأبوّة» مقابل الأمومة، وربما نشتق منه فعل «آب» بمعنى رجع، و»آب» الشهر الثامن في التقويم الميلادي (أغسطس) بالتسمية السريانية، وما زال بهذا الاسم في سورية والعراق ولبنان. وقد يذكرنا بفعل «أبى» بمعنى رفض، ولكن للكلمة «أب» معاني أخرى لا تهمنا الآن.
لا يهمنا الآن أن «الأب» بضم الهمزة هو الكلأ، وهو العشب رطبه ويابسه، وقيل هو المرعى، ووردت الكلمة مرة واحدة في القرآن الكريم «وحدائق غُلـْباً، وفاكهة وأبّاً» (30 و31 سورة عبس)، ولا يهمنا «أبَّ يئِبُّ ويؤُبّ» تجهز للمسير. وقلنا إن «الأبَّ» مثل الأب هو الوالد، ولا يهمنا أن «الأبَّ» هو النزاع والاشتياق إلى الوطن. ولا يهمنا أن نقرأ «وأبَّ يده إلى سيفه» فنفهم أنه ردّها ليستل سيفه، أو أن نقرأ «وأبَّ أبَّه» أي قصد قصْده. ولا يهمنا أن «الأباب» (بضم الهمزة) هو الماء والسراب، أو هو الموج، كما نقول عُباب، وأن الكلمة نفسها تعني معظم السيل، وأن «أبّب» تعني صاحَ، وأن «تأبَّب به» تعني تعجّب وتبجّح، وأن «أبَّ» تعني حرَّك، ويُشتق منها «الوبّ» وهو التهيُّؤ للحملة في الحرب.
قلنا في الفقرة السابقة إن أحد معاني «الأبّ» النزاع والاشتياق إلى الوطن. وتتكرر كلمة «نزاع» كثيراً في أحاديثنا وكتاباتنا والأخبار، ولكن بمعنى آخر. نازعه مُنازَعةً ونِزاعاً: جاذَبه في الخصومة. والتنازُع: التخاصُم. وتنازع القومُ: اختصمُوا. وبينهم نِزاعةٌ أي خصومةٌ في حقّ، والمنازعةُ في الخصومة: مُجاذبة الحُجج فيما يتنازَعُ فيه الخصمانِ.
ومما كنت أسمعه من العامة أنهم يقولون عن المريض «عمْ بينازع» وهي كلمة فصيحة، إذ نقول: نازع المريض نزاعاً ومنازعة: تضجر عند إشرافه على الموت، ونقرأ «وكان في النزْع الأخير» والنزع: احتضار المريض.
والأصل في هذه الاشتقاقات كلها فعل «نزَع» وله معانٍ عدة أهمها اقتلع، ولا يهمنا «نزعت الشمس» إذا دنت من الغروب، و«نزع إلى أهله» حن واشتاق، و«نزع عن الأمر» كفّ وانتهى، و«نزع يده من جيبه» أخرجها، قال تعالى «ونزع يده من جيبه فإذا هي بيضاء للناظرين» وسأورد لكم بعض الاشتقاقات التي لا تهمنا الآن. نزَع الخليفة العامل عن عمله: صرفه، جَمل نَزوع: يُنْزَعُ عليه الماءُ من البئر، فلان قريب المَنْزعة أي قريب الهِمّة. والنَّزيع: الذي أمه سَبيَّة، ونُزّاعُ القبائِل: غُرباؤهم الذين يُجاوِرُون قبائل ليسوا منهم، الواحد نَزِيعٌ ونازعٌ. ولكن «النزيع» تعني أيضاً الشريف من القوم الذي نزَع إلى عِرْق كريم، وكذلك فرَس نزيعٌ. ورأينا أن «نازع» تعني خاصم، ولكن العرب قالوا: أرضي تُنازِعُ أرضَ فلان، أي تتصل بها، ونزع: اقتلع، وحن واشتاق، ولكن «نزَع في القوْسِ يَنزِعُ نَزْعاً»: مَدَّ بالوتَر، وقلنا إن مصدر نازع «نزاع ومنازعة» ولكننا نقرأ قول الله عز وجل: «يَتَنازَعون فيها كأْساً لا لَغْوٌ فيها ولا تأْثِيمٌ» أي يتعاطَوْن، والأَصل فيه يتجاذَبُون. ويقال: ونازعني فلان منازعة: خاصمني، ولكن المُنازعة هي المُصافحة، ونازعني فلانٌ بَنانه أي صافحني.
بقيت كلمة واحدة. تقول العامة «نزعت الشيء» فهو منزوع، أي خرّبت الشيء فهو خرِب أو تالف، ولهذا الاصطلاح العامي أصل قد يبدو بعيداً في الفصحى، وهو ليس بعيداً عن نزع بمعنى اقتلع.

بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
06/02/2018
2583