+ A
A -
ما الذي يحكم عادة صناعة قرار السياسة الخارجية، داخل البيت الأبيض؟.. وهل يستطيع أي رئيس أن ينحي جانبا، أي مؤثرات على قراره في دولة بها قوى ضغط عاتية ومتنوعة الاتجاهات، خاصة مع أولوية اهتماماته، بإعادة انتخابه رئيسا لولاية ثانية؟.. وهل يحدث أحيانا أن تتغلب هذه المؤثرات على مسؤوليته عن تغليب حسابات الأمن القومي لبلاده، وعلى توجهاته الشخصية حين تتعارض معها؟.
كثير من المؤلفات التي صدرت في الولايات المتحدة سعت للغوص في هذا العالم، واستخلاص إجابات حاسمة على هذه التساؤلات، من أبرزها كتاب «الاختلافات بين الرؤساء: نمط القيادة من فرانكلين روزفلت إلى بيل كلينتون». لمؤلفه البروفسور فريد جرينستون. والذي قال إن الخصيصة الرئيسية، للرئيس هي تمتعه بالذكاء العاطفي، وهو ما يعني قدرة الرئيس على ترويض عواطفه ومشاعره، وتحويلها إلى أهداف مبنية على التوجه الجماعي، وليس خضوعه لمشاعره وعواطفه، بما يسمح بتقليص قدرته على قيادة بلده. ثم يضيف جرينستون، أن ثلاثة فقط من الأحد عشر رئيسا الذين تناولهم في دراسته، هم الذين أفلحوا في تحرير إرادتهم كرؤساء، من سيطرة مشاعرهم، واتخذوا من مواقفهم في مواجهة إسرائيل، وقوى ضغطها، نموذجا لقدراتهم وهم – دوايت ايزنهاور، وجيرالد فورد، وجورج بوش الأب.
وبالنظر إلى ما يجرى داخل النظام السياسي في الولايات المتحدة، والدور المهيمن للمشاعر الذاتية للرئيس، أو للمرشح للرئاسة، في إخضاع إرادته السياسية، وهو يوازن بين حسابات إرضاء قوى الضغط وجماعات المصالح، لمساندته في الانتخابات، وبين حسابات مصالح بلاده، حتى لو اقتضى الأمر اتخاذ قرارات ضد ما تريده هذه القوى، فإن دور اللوبي اليهودي، وقوة تنظيمه، وإمكاناته، قد كسرت شوكة بعض الرؤساء، بحيث وجد البروفيسور جرنستين أن ثلاثة رؤساء فقط هم من انحازوا في لحظات حاسمة لمصالح بلادهم.
حدث ذلك من جانب ايزنهاور عندما وجه إنذاره الشهير إلى بريطانيا وفرنسا وإسرائيل بسحب قواتهم من مصر، بعد العدوان الثلاثي عام 1956. ومطالبته إسرائيل بالانسحاب من سيناء، وهو ما تم عام 1957، بعد أن كان رئيس وزرائها بن جوريون، قد أعلن ضم سيناء إلى حدود دولة إسرائيل.
الرئيس الثاني جيرالد فورد – في تصنيف جرينستون، وهو أيضا ما تحدث عنه هنري كيسنجر في كتابه «سنوات التجديد»، ففي عام 1974 وجد فورد أن إسرائيل ترفض تنفيذ ما اتفق عليه بوساطة أميركية في محادثات فض الاشتباك في سيناء، والتقيد بما نصت عليه خطة الانسحاب. عندئذ أعلن فورد قرارا رئاسيا بمراجعة وإعادة النظر في مجمل السياسة الأميركية في الشرق الأوسط، شاملة سياسته تجاه إسرائيل.
يقول كيسنجر في كتابه، إن فورد قد فعل ما اعتقد أنه في مصلحة الولايات المتحدة، ودون أن يضع في حساباته، اعتبارات السياسات الداخلية، واحتياجات الحملات الانتخابية.
وعندما أقدمت إسرائيل على تحرك مضاد، وبعثت بنائب رئيس وزرائها ايجال ألون، للقاء فورد ومحاولة إثنائه عن قراره، مستندة إلى حشد قوى الضغط اليهودية الأميركية، فقد رد عليه فورد بقوله: إنني لا يمكن أن أسمح بتقديم مساعدات على المدى الطويل لإسرائيل، بينما لا نحصل من إسرائيل على تأييد لمجمل سياستنا الخارجية. عندئذ تراجعت إسرائيل عن عنادها، وخضعت للشروط الأميركية.
ثالث الرؤساء هو بوش الأب، وكان تصرفه عقب انتهاك اسحق شامير رئيس وزراء إسرائيل، لما اتفق عليه في مؤتمر مدريد للسلام عام 1991، بالتوقف عن بناء المستوطنات، باعتبارها غير قانونية. وكان شامير قبل هذا المؤتمر بوقت قصير، قد طلب من إدارة بوش قرضا قيمته عشرة مليارات من الدولارات. وعندما خالف شامير ما كان قد التزم به في مدريد، فقد رد عليه بوش: عليك أن توافق على تجميد المستوطنات، لأننا نرى أن هذا القرض ينبغي أن يكون متفقا مع اتجاهات سياسية للولايات المتحدة.
وكعادة إسرائيل في مثل هذه المواقف، فإنها دفعت اللوبي اليهودي لتحريك أنصارها في الكونغرس بمجلسيه، للضغط على الرئيس بوش، لكنه لم يخضع، وذهب وزير خارجيته جيمس بيكر إلى الكونغرس متحدثا أمام لجنة الشؤون الخارجية بمجلس النواب، ووجه انتقادات حادة لسلوك شامير، معلنا أن الولايات المتحدة تعارض الضم والتوسع في الأراضي، وقال في عبارات واضحة، إن موقف أميركا يتفق مع مصالح أمنها القومي. أمام هذا الموقف، أرغم شامير على التراجع والإذعان، لما أراده الرئيس بوش.
هؤلاء الرؤساء الثلاثة نجحوا في الإفلات من سطوة المشاعر الذاتية، وانحازوا لمصالح شعوبهم، من غير تكبيل إرادتهم بحسابات السياسات الداخلية. فهل لا يبقى في التاريخ الأميركي، على تعدد الرؤساء، سوى ثلاثة فقط انحازوا لمصالح بلادهم ولقواعد العدالة والإنسانية، وغلبوها على حسابات مصالحهم الشخصية، واحتياجاتهم للفوز في الانتخابات.
بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
10/01/2018
2451