+ A
A -
من طبيعة الانسان أن العواطف العميقة لأي حدث صغيرا كان أم كبيراً، لا تدوم دواما لا نهاية له، سواء في الفرد أو في الجماعة، وهذه حقيقة تعرفها الحكومات الاستبدادية، والانظمة العسكرية، لذلك فهي تعي أنها بحاجة إلى تنشيط الأفعال وتحفيز الهمم، وهذه الإثارة التي يجب أن تستمر إلى ان تنتفي الحاجة إليها مهمة لا بد أن يؤديها المثقفون، والكتاب، والشعراء، والصحفيون، وحديثا انضم إليهم المطربون، مهمة يلتزم فيها البعض بالاخلاق وعرض الحقائق بلا تشويه منسجمين بذلك مع مبادئ الإنسانية واحترامهم لأنفسهم وللعقول والكلمة المكتوبة، وينجرف البعض الآخر وهم الأغلبية في تضليل الناس وإثارة الضغائن ودق طبول الكراهية بكل ابتذال وبلا وازع اخلاقي أو مهني، ولعل حالة احد الشعراء المتوسطي الموهبة في ألمانيا إبان الإعداد للحرب العالمية الأولى ويدعى «إرنست ليسارو» هي الحالة الأكثر نموذجية على تورط المثقفين والفنانين في معمعة وبيانات الحكومات التي تخضع لحاكم أوحد ورأي واحد، ومن ثم يتصدرون المشهد ويروجون لشعار مستهلك «من لا يشتم خائن ومن لا يكره لا يحب» تورط قد يكون نابعا عن ارادة حرة اوقد لا يكون، لكن المؤكد أنه بعد أن تهدأ العاصفة ويحل السلم وتتصالح المصالح يكونوا هم أول المتضررين، وأول من يدفع الثمن، ليسارو صدق كل ما قيل له وكل ما نشرته الصحف من أن بريطانيا هي رأس الشر، وهي المسؤولة عن الحرب بالرغم من أن كل الدلائل والوثائق تشير إلى أن النمسا هي من دق طبول الحرب، ودفعه الحماس لكتابة قصيدة أطلق عليها «ترنيمة الكراهية» تهاجم بريطانيا هجوما شرسا وتقسم وتتعهد بالحقد على كل مواطن فيها إلى أبد الآبدين، وعدم نسيان الجريمة التي أقترفتها بحق الشعب الالماني، وسرعان ما انتشرت أبياته كانتشار النار في الهشيم، طُبعت وأعيدت طباعتها في كل الصحف، وفٌرضت على الطلبة في المدارس، والجنود في المعركة، وحفظها غيبا النساء والاطفال، وقام الامبراطور بمنح صاحبها أعلى وسام أنذاك وهو وسام «النسر الاحمر» وكأن كل هذا لم يكن كافيا، أذ اقترح أحدهم تلحينها لتغنى في المسارح وفي كل مكان، وبالفعل تم ذلك، وبين ليلة وضحاها أحرز الشاعر المتواضع الموهبة «ليسارو» شهرة لم ينلها أي أديب في تلك الحرب، ولكنها شهرة قُدرً لها أن تحرقه كما أحرقت الحرب قلوب الامهات والزوجات والعالم كله. فما أن انتهت الحرب، وبدأ الناس يعودون لحياتهم السابقة، وتصافح المختليفون الكبار، حتى ظهر من يطالب بعقاب من أساء لبريطانيا اساءة كبرى وتجنى عليها، وحاول الشاعر التنصل من قصيدته دون جدوى، فالصحف التي كانت تعيد نشر قصيدته باعتبارها رائعة العصر وتمجد فيه ليلاً ونهاراً كانت أول من هاجمته واتهمته بأنه المذنب الوحيد في نشر الاهتياج المجنون للكراهية، وتبرأ الجميع منه، فلم تعد الجرائد تنشر له أي جديد، وكل من احتفى به عام 1914 صده بلا مواربة، هجره الاصدقاء، وتجاهله أقرب الناس له وكأنه المسؤول الوحيد عن قيام الحرب، وما أن جاء هتلر للحكم بعد عدة سنوات حتى قام بطرده من المانيا التي كان متعلقا بها أشد التعلق، وفي الغربة مات مهموما ومنسيا بسبب قصيدة سخيفة رفعته عاليا ثم هوت به إلى أسفل السافلين.

بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
09/01/2018
4058