+ A
A -
مع بداية كل عام يرجو الناس الأفضل حتى لو كانت المقدمات لا تبشر أو تسر.. ومقدمات 2018 ليست مثالية ولا هي حتى جيدة.. وبرغم ذلك يبقى مسموحاً، ولو من باب التمسك ببصيص الأمل، أن نتمنى جديداً طيباً.. وليس من أمنية أفضل على المستوى العربي العام في العام الجديد من التخلص من زمن الغفلة.
هذا الزمن الذي طال وتلك الغفلة التي لم يقع شر إلا بسببها.. غفلة شاملة ومخجلة.. عن العدالة الاجتماعية المفقودة.. عن عذابات الفلسطينيين المريرة.. عن حقوق الإنسان المهدرة.. غفلة عن جوهر الإسلام النقي.. عن العلم وكيف يرفع الأمم.. عن التصنيع المتقدم.. عن العمل العربي الجماعي.. غفلة عن خطورة إسرائيل.. عن خطر بقاء الدول العربية بلا مظلة إقليمية لها صوت وحس.. عن بذاءة اللغة التي تفشت في كل ألوان الخطاب.. غفلة عن السفه الاقتصادي وبذخ المفسدين وأنات المحبطين.
إنه زمن كامل من الغفلة عن أخطار حالة ومبادئ منتهكة.. زمن طال أمده ولا يبدو بواقعية شديدة أن 2018 ستضع له حداً.. سيستمر ترامب في شق صف العرب.. سيواصل نتانياهو تصفية القضية الفلسطينية.. سيتعارك العرب على القضايا القديمة وأخرى جديدة.. سيواصل الأغنياء نهب أموال الفقراء.. ستزداد حدة البذاءات اللغوية. ستبقى الجامعة العربية تصرف أموالاً باهظة بلا طائل.. سيغرق التيار الإسلامي كعادته في أفكاره الحجرية الفاشلة. ستتبعثر القوى المدنية برؤاها الضحلة المعتادة.. ستتضاعف شهية الاستبداد لافتراس الجميع.. ستبقى الغفلة السياسية والاقتصادية والدينية والاستراتيجية بل وحتى الفنية والرياضية مسيطرة.. فالغفلة زمن كامل وحالة ذهنية عامة وأسلوب معتاد للحياة.
وليس من باب للخروج من أي مشكلة في هذه المنطقة قبل أن يخرج العرب أولاً من زمن الغفلة.. قبل أن يفكروا في الدنيا من حولهم بشكل مختلف.. قبل أن يعرفوا أنهم مخدوعون ليس فقط من أعداء لا يحبونهم وإنما من نفوسهم المسكونة بالغفلة.. فما زالوا يخدعون أنفسهم بكلمات كبيرة يطلقونها على أنفسهم متغافلين حقيقتهم التعيسة.. تخدعهم الغفلة اللعينة فيعتقدون أن خصخصتهم للأصول العامة هي الطريق إلى العدالة الاجتماعية، وأن القبض المطلق على السلطة وإلغاء السياسة هو المخرج من الإرهاب والمدخل إلى الاستقرار.
لا بد لزمن الغفلة أن يغرب أولاً.. أن تبدأ مراجعة واسعة لبلادة المواقف والتصرفات.. أن يظهر فكر جديد.. أن يعود الضمير وترجع الروح ويُسترد الوعي.. لقد ولّد زمن الغفلة وعياً زائفاً جعل البعض يتصور مثلاً أن الريادة لا تكون إلا بالصراخ وكيل الشتائم.. أو أن التنمية تقاس بحجم بيوت الأغنياء.. أو أن التعليم يرتقي طالما كان التدريس بلغات أجنبية.
لقد أضر زمن الغفلة الطويل كثيراً بالعرب.. استغفلهم لقرون فلم يقاوموه إلى أن أصبحت تصرفاتهم لا تندرج فقط ضمن أخطاء الغافلين وإنما تبدو أحياناً مثل حماقات المغفلين.. ولا غرابة في الأمر فالغافلون والمغفلون كلمتان مشتقتان من جذر واحد.. الغافل من يهمل الأشياء ولا ينتبه لها. والمغفل من يخسر قيمته بين الناس عندما يخدعونه ويتلاعبون برأسه. وعادةً ما يجتمع الغافل بالمغفل. فالغافل لا يدرك المعاني العميقة وراء الأشياء.. أما المغفل فيصدق ما يعرض عليه حتى لو كان كذباً.
ولم يكن زمن الغفلة العربي ليطول إلا لأن زمن الاستبداد طال أكثر منه. فالغفلة، كما يقول عبدالرحمن الكواكبي، وسيلة المستبد لبسط سلطانه على الناس.. والاستبداد لا يبقى إلا في غفلة الحق عنه.. ولهذا لن يرحل زمن الغفلة إلا مع مولد زمن الضمير وصحوة الوعي.. ومع أن العرب لم يتوقفوا عن التبشير بالاستيقاظ من الغفلة إلا من أدعى أنه سيجلبها لهم ساهم للأسف في تعميقها وإطالة زمنها.. القوميون مثلاً وعدوا بصحوة المارد العربي.. والإسلاميون زعموا أن زمنهم نفسه زمن الصحوة.. لكن الأدلة كلها تشير إلى أن زمن الغفلة تعمق على يد القوميين وتفاقم مع الإسلاميين.. وهو ما جرى على يد الجيوش عندما قبضت على السياسة. الجميع اشترك في صناعة زمن الغفلة وصناعة زمن الاستبداد.. كل التيارات السياسية العربية مدانة حتى الليبرالية منها.
ولا يزال زمن الغفلة يُطبق للأسف على المنطقة بطولها وعرضها.. زمن تعطل فيه الضمير طويلاً.. ولا ينتظر لهذا الزمن أن يغرب هكذا بسهولة في العام الجديد.. فالغفلة مركبة ومتشعبة ومحمية بثقافة مستبدة تشجع على التغافل وتبارك الغافلين.. زمن لن يموت ما لم تتغير المدركات الشعبية لتبدأ عملية نقد جماعي عميق للذات يعرف الغافلون من خلالها أنهم كانوا متغافلين وربما أيضاً مغفلين.. بدون ذلك سيبقى زمن الغفلة يبدد الطاقات ويهدر الإمكانات ويضيع القدرات.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
08/01/2018
4204