+ A
A -
يطرح أحد الأصدقاء على صفحته على فيسبوك السؤال التالي: ما هي الغربة بالنسبة لكم وماذا تعني!.
وتأتيه الإجابات المتعددة في التعليقات على منشوره المثير، معظم التعليقات تتحدث عن الغربة كمفهوم البعد عن مسقط الرأس، عن الوطن، عن العادات اليومية التي يمارسها كل منا بما يتسق مع مجتمعه الأصلي.
فكرت كثيرا بالسؤال، قبل أن أضع له إجابتي، وسائل التواصل الاجتماعي وثورة الاتصالات الحديثة، استطاعت أن تنحي جانبا مفهوم الغربة، وفعلا حولت العالم إلى قرية صغيرة، أصبحت الغربة كمفهوم مادي، مفهوم مفرغ من محتواه، أستطيع أن أقضي ساعات متواصلة أتحدث مع ابنتي التي تبعد عني آلاف الكيلومترات، صوتا وصورة، بحيث إذا ما التقينا بعد حين لن نجد جديدا نتحدث عنه، أعرف أخبارها وتفاصيل حياتها ويومياتها، وشكل غرفتها ولون غطاء سريرها وما اشترته من ملابس جديدة، كما لو أنني أعيش معها لحظة بلحظة، الغربة شيء مختلف، الغربة هي عزلة وبعد بصري وسمعي عن كل من تحب وما تحب.
هذا عن المفهوم المادي للغربة، ولكن ماذا عن المفهوم النفسي؟!.
قد تعيش في مجتمع مغاير وبلد ليس بلدك، ولا يتحدث أهله لغتك، وأنت لا تسعى لأن تتعلم لغة أهل البلد الذي أنت فيه كي تصبح من نسيج المجتمع ويختفي إحساسك بالغربة، الغربة هنا فعل بقرار شخصي، رفضك التأقلم مع المجتمع الجديد، قد يكون نتيجة الخوف لأي سبب من الأسباب، وبالتالي الانكفاء قد يكون هو الحل، الانكفاء الذاتي والبقاء في دائرة صغيرة جدا معزولة عن المحيط، هذا الانكفاء سوف يعزز شعور الغربة والمنفى، لكنه شعور نفسي، نابع من الداخل، حله موجود في داخل صاحبه أيضا، منه وإليه، لن يتخلص منه ما لم يقرر هو ذلك.
فكرت بموضوع السؤال بما يخصني شخصيا: أعيش في بلد عربي، أهله يتكلمون لغتي نفسها، عاداتهم لا تختلف كثيرا عن عادات سوريا، نفس الألفة أشعرها مع الناس، نفس المخاوف التي كنت أعيشها في بلدي، ثمة مشكلة لوجستية تتعلق بموضوع الإقامة والدخول والخروج والسماح للعائلة بزيارتي إلى حيث أقيم، وإلى ماهنالك من مشاكل مشابهة يعرفها السوريون جيدا أينما كانوا وفي أي بلاد حلوا، بيد أن الشعور بالغربة يراودني أحيانا من مكان آخر، من منطقة مخفية، أنا أعيش من كتابتي، فيما لو توقفت عن الكتابة لما تمكنت من دفع إيجار شقتي، لو كنت في بلدي قد يحصل هذا أيضا، خصوصا أنني لم أكن أملك أي شيء في سوريا، لا بيت ولا أرض ولا أي شيء، لكن هناك لو حصل شيء مشابه كنت سأذهب للعيش مع أمي في بيتها، وستظل كرامتي محفوظة نسبيا، لو حصل هذا هنا فسأفقد كرامتي تماما، سأصبح مشردة، ولا أستطيع العودة إلى بلدي، الغربة تكمن هنا، في الخوف من فقدان الكرامة، الذي يسببه الخوف من فقدان مصدر الدخل، الغربة إذن هي فقدان الكرامة وفقدان مصدر دخل يمنع عنك الحاجة والعوز، قالوا ذات يوم (صاحب الحاجة أرعن)، وأنا أقول إن: صاحب الحاجة ذليل وفاقد لكرامته، والذل هو الغربة الحقيقية، الذل وفقدان الكرامة والفقر هم الغربة حتى لو كنت في قلب وطنك ومدينتك وقريتك. أما البعد عن الوطن والأهل بوصفه غربة فقد حلته وسائل الاتصالات الحديثة تماما.
بقلم : رشا عمران
copy short url   نسخ
19/12/2017
3666