+ A
A -

وسط الأحداث العربية الساخنة خلال العام 2017، وما أكثرها، يأتي تحرير مدينة الموصل العراقية بمثابة الحدث العربي الإيجابي الوحيد؛ لكونه طاقة النور الوحيدة في المشهد المظلم حيث الانقسام والتشتت. فقد جمع ملامح المشهد العربي وليس العراقي فقط، من حيث أسباب الصمود والمقاومة حتى النصر، في مواجهة أسباب الوهن والتردي، فضلا عن دلالاته المستقبلية.
لقد جاء وقت جرى فيه الحديث عن تحرير مدينة عربية ونحن في القرن الحادي والعشرين وليس عن تحرير دولة كما كان الوضع في مراحل الاستقلال الوطني في المنطقة العربية، وكأن الدولة الوطنية العربية باتت في محنة حقيقية حيث ليس من المتصور الحديث يوما عن تحرير إحدى مدنها بعد أن دانت لها السيادة على أراضيها عقودا طويلة. المشهد لم يكن عراقيا وحسب بل تكرر بصور مشابهة في بلدان عربية أخرى.
كانت الموصل قد سقطت في قبضة تنظيم «داعش» الإرهابي ليلة 11 يونيو عام 2014 وذلك عندما داهم نحو ألفين من مقاتلي التنظيم مقرات الشرطة والحواجز الأمنية والسجون أيضا مما جعل المدينة تسقط سريعا في أياديهم.. وعلى مدى 3 سنوات تمكن التنظيم من تشكيل حاضنة مجتمعية له في المدينة مستغلا الاحتقان السني من الحكم في بغداد والإهمال والتهميش وغضب العشائر.
وبعد 9 شهور من الحرب على التنظيم تم إعلان تحرير المدينة في 8 يونيو 2017 على لسان حيدر العبادي رئيس الوزراء العراقي الذي وصل المدينة مرتديا الزي العسكري معلنا هزيمة التنظيم.
أهمية الحدث ترجع لأكثر من اعتبار. فالموصل هي عاصمة أو مركز محافظة نينوى، وتعد المدينة ثاني المدن العراقية بعد بغداد من حيث عدد السكان، معروفة بوزنها التجاري حيث أنها ملتقى التجارة بين العراق وكل من تركيا وسوريا. أغلبية سكانها من السنة وهناك أقلية (20%) تضم طوائف مسيحية وأكراد وتركمان وشبك، وتقطنها بعض كبريات العشائر العراقية مثل شمر والجبور. وبها أكبر سدود العراق وهو سد الموصل.
ليس ذلك وحسب، بل إن تحرير المدينة كان انتصارا على أخطر أشكال التنظيمات الإرهابية التي تتستر باسم الإسلام وهو تنظيم «داعش». ومعلوم إلى أي حد من السوء وصلت الصورة الذهنية عن الإسلام في العالم بسبب وحشية وانحراف هذا التنظيم. ولم يكن الخلاص من التنظيم سهلا لا في العراق أو سوريا علما بأنه تغلغل في مناطق عربية أخرى. واحتاج إلحاق الهزيمة به إلى تشكيل تحالف دولي. واستغرقت عملية إلحاق الهزيمة بالتنظيم نحو 3 سنوات خلفت بعدها حجما مهولا من الدمار. وكانت الموصل محطة فارقة في هذه العملية، فبعد تحريرها توالت مظاهر انحسار التنظيم وتنفس العراقيون والعالم الصعداء.
ومن جهة أخرى جسدت قصة سقوط الموصل وكذلك تحريرها جانبا كبيرا من الوضع المأساوي الذي عاشته المنطقة العربية، ولا تزال، منذ الحرب على العراق 2003. واتسم هذا الوضع بالارتباك والفوضى وسقوط دول عمليا وليس فقط مجرد سقوط أنظمة. ولذلك كانت عملية تحرير الموصل إعلانا ببداية مرحلة الاستفاقة العربية من ذلك الوضع المأساوي.
العراقيون بالطبع هم أول من استوعب الدرس القاسي لأنهم عاشوه سنوات عديدة وأصبحت لديهم خبرة جيدة بكيفية إرساء قواعد سياسية تمنع تكرار التجربة المرة، ولذلك مثلا تجاوزوا سريعا أزمة الاستفتاء الذي قام به إقليم كردستان العراق مطالبا بالانفصال. كما أن العراقيين باتوا أكثر توافقا على تحقيق الميلاد الجديد لبلدهم، خاليا من الاحتقان الطائفي والمؤسس للتعددية السياسية.
ولكن التحرير لن يكتمل إلا بإعادة الإعمار، وتلك مهمة ضخمة تستشعرها الحكومة العراقية. فوفقا لما تم تداوله إعلاميا تحتاج عملية تحرير الموصل لما يزيد على المائة مليار دولار، نظرا لأن المدينة تحولت إلى مدينة أشباح بالنظر إلى حجم الدمار الذي أحدثه «داعش»، وذلك الذي ترتب على إجلائه من المدينة. ودون مساندة المجتمع الدولي لخطة إعمار طويلة وقوية، فإن الموصل مهددة بظهور أشكال جديدة من «داعش».
بقلم : د. عبدالعاطي محمد
copy short url   نسخ
09/12/2017
2512