+ A
A -
كان الراحل الدكتور مصطفى محمود سباقا في شرح الحقيقة الكبرى التي توصل إليها بعد ثلاثين عاما من البحث وإجراء التجارب العلمية في المعامل، وكانت الحقيقة هي أن العلم يقود إلى الإيمان، وأن الإيمان هو الذي يقود الإنسان إلى فهم لغز الحياة، ولغز الموت.
وعندما حكى تجربته المثيرة التي بدأت بالشك وانتهت بالإيمان، وقال إنه بدراسته للطب اكتسب عقلية علمية وبهذه العقلية بدأ رحلته في عالم العقيدة، وأدرك بهذه العقلية العلمية كيف أن الكون كله مبني وفق هندسة دقيقة وقوانين وكل شيء يوجد بسبب ويتحرك بحساب من الذرة المتناهية الصغر إلى الأفلاك العظيمة كالشمس وكواكبها إلى المجرة الهائلة التي فيها أرضنا وفيها أكثر من ألف مليون شمس، وقاده البحث إلى أن الله هو الكل وهو الوجود وهو الصانع والخالق لكل ما في الوجود، والصلة بين المخلوق والخالق معقودة دائما فهو سبحانه أقرب إلى مخلوقاته من دمها الذي يجرى في عروقها.
وتوقف مصطفي محمود طويلا أمام جسم الإنسان وكل البشر من خامة واحدة هي الخلية وفي هذه الخلية الجينات الوراثية، ولكن كل إنسان فيه ترتيب خاص لهذه الجينات تجعله لا يتطابق مع غيره من الناس بحيث ينفرد كل إنسان بتكوين جسماني وعقلي ونفسي خاص به كما ينفرد كل إنسان ببصمة خاصة لا تتكرر أبدا فلا تتكرر البصمة حتى لتوأمين، فكل فرد له بصمة لا يمكن أن تجدها في إنسان آخر منذ بدء الخليقة إلى أن تقوم الساعة، ومعنى ذك أن الفردية والتفرد حقيقة، واكتشف أن النوم ثم اليقظة هما النموذج المصغر للموت ثم البعث، وكل إنسان يستطيع أن يلمس الوجود الروحي بداخله ويدرك أنه وجود مختلف عن وجوده المادي.
ويقول مصطفى محمود إنه خطر له أن يكتب كل ما يحفظه من أرقام..رقم جواز السفر..ورقم السيارة..ورقم البيت والشقة والتليفون..ورقم الهوية وأرقام تليفونات من يعرفهم، وتواريخ ميلاده وميلاد أولاده، وثوابت الرياضة والطبيعة مثل النسبية التقريبية وسرعة الضوء وسرعة الصوت ومجموعة زوايا المثلث، ودرجة غليان الماء، وما تعلمه في كلية الطب عن نسبة السكر في الدم، وعدد كريات الدم الحمراء وعدد كريات الدم البيضاء، وعدد نبضات القلب..وغير ذلك كثير.. وبعدها وجد أمامه عدد كبير من الأوراق فيها مئات الأرقام. ورأى أن في داخله حاسب الكتروني، وسأل نفسه: أين كانت تختفي كل هذه الأرقام مع مئات الأسماء والكلمات والاصطلاحات وأكثر من لغة وكيف يتذكر الأشكال والوجود والأماكن والروائح وكيف يتذكر الأصوات والأغاني والموسيقى، وكيف يتذكر الأحداث المؤلمة والأحداث السارة..أين يوجد هذا الأرشيف العجيب..ولم يجد الإجابة في الذاكرة لأن أحدا لم يعرف ماهي الذاكرة وكيف تعمل وكيف تنسى.. وقاده ذلك وقاده ذلك إلى أن هذا سر من أسرار الخالق فهو سبحانه «يعلم السر وأخفى» وهذا ما جعله يؤمن بأن التفسير المادي وحده لا يقوده إلى الحقيقة الكامنة في كل الموجودات وهي إرادة الله وقدرته.
ويقول مصطفي محمود أنه أدرك العدل الإلهي وحكمة الله في أن خلق في كل كائن القدرة على إدراك الحق من الباطل، والصواب من الخطأ، والفضيلة من الرذيلة، وهذه هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها، والدليل على ذلك أن الإنسان حين يظلم أو يخطئ أو يأتي بالرذيلة فإنه يشعر في داخله بوخز الضمير وبعد فترة تطول أو تقصر يشعر بالندم لأنه الميزان في داخله، ولكنه يتجاهله أحيانا أو يضللك الشيطان أحيانا أخرى ولهذا يقول الله تعالى «وهديناه النجدين» أي أن الإنسان بفطرته يميز بين الخير والشر، وإحساس الفطرة الأولى الذي خلقه الله في بنية المخلوق، فهذه هي «الحاسة الأخلاقية» التي نجد أثرها حتى في الحيوان، ويكفي أن تنظر إلى قطة حين تخطف قطعة لحم أو سمكة، أو تنظر إلى عصفور حين يهبط خلسة لينقر الحب ويسارع بالطيران، ويكفى أن نتذكر قصة الغراب الذي قتل أخاه ثم سارع بدفنه ليواري سوءة أخيه كما جاء في القرآن وتعلم منه ابن آدم حين قتل أخاه.. هذه هي الحاسة الأخلاقية، وهي الضمير الذي خلقه الله في الإنسان وغيره من الكائنات.. «صنع الله الذي أتقن كل شيء» ( النمل – الآية88).

بقلم : رجب البنا
copy short url   نسخ
25/11/2017
8546