+ A
A -
منذ نعومة أظافرنا، وقبل بداية تأقلمنا مع الحياة، وركوب موجتها، وظهور التمييز في السلوكيات والتمايز بين الأعراف والعادات، عندما كنا أطفالاً صغاراً، نغدو للمدارس صباحاً، ونعود للمنازل ظهراً، نردد ما سمعناه هناك وما حفظناه في الطابور.. ونقول بصوت واحد مؤثر ومثير في الردهات والطرقات: «خليجنا واحد.. وشعبنا واحد».
من هنا عرفنا محيطنا، وتعرفنا على منطقتنا، وما يجمعنا بها من وحدة الدم واللغة، والتاريخ والجغرافيا، والمصير المشترك، قبل أن يأتي «ساسة اليوم»، أو حزب «المراهقين الجدد»، لينسفوا كل هذه الروابط في أيام قليلة، ويعودوا بنا قرونا للوراء.. إلى أيام داحس والغبراء، ومعارك الجاهلية.. ولكن دون مروءتها، ولا أخلاق الإسلام بعدها.
حديثي اليوم ليس عن مثيري الفتن، ولا مديري المؤامرات أو قنوات الشياطين وإعلام الغفلة.. فهؤلاء تم الرد عليهم وتعريتهم أمام العالم، ولن يفلتوا من شعوبهم، التي ستحاسبهم في يوم ما، بعد أن تتجاوز مرحلة الإرهاب والتخويف، التي تمارس ضدها، بطريقة قمعية مذلة، وسيتم معاقبتهم على ما اقترفته هذه الأنظمة من خطايا، وما أهدرته من خيرات، وعلى ما تجنت به على الأشقاء والشرفاء والعلماء.
هم لم يعودوا يهمّوننا، فنحن بألف خير بدونهم، وتجاوزناهم إلى المستقبل الرحب، والعالم المتحضر المتطور.. ولن نلتفت لتفاهاتهم وحماقاتهم.
اليوم حديثي عن «شمعة الخليج»، التي تضيء المنطقة حباً وسلاماً ونوراً، بسياستها العاقلة، وشعبها الطيب، وحضارتها الضاربة في أطناب الأرض، وصيتها الذي يعانق عنان السماء.
أتحدث عن سلطنة عُمان الحبيبة، التي تحتفل هذه الأيام بيومها الوطني في نسخته رقم (47)، وهي ترفل بالاستقرار والازدهار، ونسأل الله أن يديم عليها هذه النعم، ويحبوها بمزيد من الخيرات، ويجعلها في منأى عن الحسد والحقد ومثيري الفتن والأزمات.
عرفت عُمان كدولة عضو في مجلس التعاون، وجارة شقيقة، منذ الصغر.. ولكن متى عرفت تفاصيلها وطبيعتها وشخصيتها؟ وبماذا تختلف عن غيرها؟!
عندما كنا صغارا قرأنا عنها في الكتب، وشاهدنا لها صورا تعكس حضارتها وطبيعتها الخلابة.. وكانت هذه هي الوسيلة المحددة والمحدودة المتوفرة والموجودة، في ذلك الوقت، في غيبة الإنترنت وجوجول، وبقية البرامج التكنولوجية، ثم تطورت العلاقة إلى زيارة في منتصف التسعينيات لحضور المباراة النهائية لكأس الخليج لكرة القدم، ولكن كمشجع وليس كإعلامي!
فأخذت انطباعا إضافيا عن جمال المدينة (مسقط) ونظافة شوارعها، وشياكة مبانيها، وبروز شخصيتها العمرانية، وخرجت بحقائق أخرى بقيت معي حتى كتابة هذه السطور، وستبقى مدى العمر إن شاء الله، وأبرزها أصالة الشعب العُماني، وتمسكه بالعادات والتقاليد الإسلامية والعربية، ومنها الكرم والوفاء، والتواضع والمحبة، فتشعر نفسك قريباً منهم.. بل منهم وفيهم.
بعدها. بدأت مرحلة التعامل مع سلطنة عُمان من زاوية إعلامية، ومن منظور الصحفي الباحث عن المعلومة.. وعن الحقيقة.
فوجدت الصدق والشفافية والموضوعية والحياد التام في التعامل معهم.. وفي تعاملهم مع الأحداث، وحضرت برفقتهم عديد اللقاءات، وكذلك الانتخابات، وكانت عُمان تسمو فوق جميع الخلافات، وتدير بحكمتها الاختلافات، وتقدم لها الحلول المبتكرة، بشخصيتها المتفردة.. والمتجددة والنابعة من القلب.. وليست التابعة لأحد.
عند الحديث عن سلطنة عمان الشقيقة، وهي تحتفل بالذكرى السابعة والأربعين ليومها الوطني، لابد من التوقف أمام مسألتين في غاية الأهمية: قيادتها وموقعها.
إن ما تحقق من إنجازات في هذا البلد، يعود في جانب رئيسي منه إلى القيادة الملهمة للسلطان قابوس بن سعيد، سلطان عمان، فهو باني نهضتها الحديثة، وهو صانع مجدها، بكل ما تعنيه هذه الكلمات من معان، حيث رسخ أركان الدولة العصرية، ورسم طريقها، وحدد أهدافها، ووضع قيمها المتزنة، وكرس تقاليدها السمحة، فكانت الدولة العصرية التي يشهد العالم بإسهامها الحضاري والفكري وحضورها الفاعل في المحافل الإقليمية والدولية.
لم يكن ذلك سهلا على الإطلاق، لكن إرادة العمانيين، ووجود قيادة تؤمن بشعبها وتخلص له، قادا إلى ما تشهده السلطنة اليوم من نهضة قل نظيرها، كان ولا يزال غايتها الإنسان والمجتمع، وشملت كافة القطاعات، كالتعليم العام والعالي، والخدمات الصحية والاجتماعية، وخدمات الكهرباء والمياه، والنقل والاتصالات، والموانئ والمطارات، وسوق العمل المستوعب لجهود الرجل والمرأة على حد سواء.
لا يمكن اختصار ما تحقق في سلطنة عمان عبر مقال في صحيفة، كما لا يمكن تناول منجزات السلطان قابوس بن سعيد في كلمات، فنحن أمام مسيرة قائد كبير، وعد فأوفى، وسعى مخلصا رغم التحديات الجسام لاستعادة مكانة عُمان العريقة، التي عرفت بها منذ القدم، حيث أرسى دعائم الوحدة الوطنية، باعتبارها ركيزة راسخة تنطلق منها وترتكز عليها جهود التنمية المستدامة في شتى المجالات، كما حرص على إعلاء قيم العدالة والمواطنة، والمساواة وحكم القانون، وتدعيم أركان دولة المؤسسات، في إطار الدولة العصرية، التي ينعم فيها المواطن والمقيم بالأمن والأمان، وتتحقق فيها للجميع أجواء الطمأنينة وصون الحقوق، في ظل حكم وسيادة القانون.
قلت إن الحديث عن سلطنة عمان لابد أن يتوقف أمام مسألتين: القيادة والموقع، إذ تقع السلطنة عند مضيق هرمز الاستراتيجي، وهو أحد أهم الممرات المائية دوليا، حيث تعبره السفن وناقلات النفط، وهي محملة بمعظم احتياجات دول العالم من الطاقة، الأمر الذي أدركته سلطنة عمان مبكرا، فكان أن سعت إلى بناء أفضل العلاقات مع دول الجوار، وهي عملية معقدة وشائكة وصعبة، تمكنت السلطنة من المضي فيها بحكمة قيادتها، ولم تدخل كطرف في الخلافات، وإنما كوسيط لعب أدوارا في غاية الأهمية لتقريب وجهات النظر، وحل الخلافات أينما اندلعت، حفاظا على الأمن الإقليمي، والدولي أيضا.
لم تكن المهمة سهلة، لكنها أيضا لم تكن مستحيلة في ظل وجود قيادة آمنت على الدوام بأن الخلافات لا تحل إلا بالسلم والمفاوضات، فصارت سلطنة عمان رمزا للحكمة، وموضع ثقة لكل الأطراف، وهو دور ما كانت لتضطلع به لولا السلطان قابوس بن سعيد، وإيمانه التام بالحوار كوسيلة حضارية قادرة على تذليل الصعاب والخلافات، فنالت السلطنة احترام الجميع دون استثناء، وصارت موضع ثقة قل نظيره.
التقيت بالعديد من الأشقاء العمانيين، وسمعت ما يقولونه حول السلطان قابوس وحكمته، في جمع شمل شعبه من مختلف الأطياف والفئات على كلمة واحدة، والحفاظ على استقرار البلاد، وضمان تطورها العمراني والحضاري، ورعاية التعايش، وبناء علاقات صداقة مع كل دول العالم، وليس من قبيل المبالغة القول إن سلطنة عمان هي البلد الوحيد في العالم الذي ليست لديه مشاكل لا مع دول الجوار ولا مع أي دولة أخرى في العالم، وتلك واحدة من ثمار سياسة الحكمة التي يشهد بها العمانيون لسلطانهم، وهو ما تترجمه علاقة الحب والود التي يمكن أن تقف عليها من خلال الحديث مع العمانيين، هذا الشعب الأصيل، الذي يحمل الكثير من الحب والتقدير لأشقائه.
السلطان قابوس هو الأب الروحي لوحدة العمانيين، ينتصر للمظلومين وأصحاب الحق، ويفرض سلطة القانون على الجميع، في سلطنة العدل والمساواة بينما معظم الدول العربية تعيش طوفان من الفساد والفقر والنزاعات، تقتلها حروب البحث عن كرامتها أو قوارب الموت التي تفر بها، خوفا من مستقبلها المظلم أو خلاصا من واقعها المتردي.
لطالما عُرفت سلطنة عمان بدورها في تقريب وجهات النظر داخل البيت الخليجي، أو بين دول الخليج العربية وجيرانها، في الكثير من القضايا الحساسة، وهي استطاعت أن تبقى حكما نزيها في مواجهة كل ما شهدته المنطقة من حروب ونزاعات، عبر تبني مواقف تتسم بحكمة بالغة في عدد من القضايا الإقليمية، من دون أن تتخلى عن حرصها على نبذ الصدام وإبقاء باب الحوار مفتوحا مع جميع الأطراف، دون أن تنزلق إلى حقول ألغام الخلافات العربية، فحظيت بالتقدير والاحترام ونالت ثقة الجميع، واستطاعت بذلك بلورة شخصية مستقلة بعيداً عن المحاور والتحالفات، وهو أمر يُحسب لها ببالغ التقدير.
آخر نقطة ..
كنت أنوي حضور حفل السفارة العُمانية الذي أقيم أمس في فندق سانت ريجس، لولا ارتفاع مفاجئ في درجة الحرارة أجبر كاتب هذه السطور على متابعته عن بعد وعبر وسائل التواصل، وقرر أن ينقل هذه الحرارة من الجسم عبر القلم إلى هذا المقال، ليعبر عن ما يجيش به خاطره كما هو الحال بالنسبة للشعب القطري تجاه أهلنا في عُمان.
كما نؤكد أن هذه المشاعر غير مرتبطة بموقف عُمان مؤخرا من الأزمة الخليجية، وهو المتوقع منها والمعروف عنها، وإنما حبنا لها ولشعبها، والذي يتحدث عنه تاريخ مشترك بين البلدين، ومواقف لا تنسى من الطرفين، وعلاقة محبة بين الشعبين .. متينة وراسخة بثبات الجبال العُمانية وبجمال ومذاق «الحلوى» السلطانية.

بقلم: محمد حمد المري
رئيس التحرير المسؤول
copy short url   نسخ
20/11/2017
10869