+ A
A -
في البدء يتعلق الأمر، بحدث متفرق، بجملة صغيرة في تصريح سياسي، بصورة عابرة، بفيديو على اليوتيوب، بتفاصيل حميمية من الحياة الخاصة لشخصية عمومية، لكن سرعان ما يتحول الجزئي والمتفرق والعابر والشخصي، إلى موضوعية مركزية للجدل والصراع وبناء المواقف، ثم نمر بسرعة أكبر إلى حدث آخر لنصنع منه موضوعة جديدة، وهكذا دواليك.
إنها الدورة الجديدة قصيرة النفس للحوار العمومي في ساحاتنا العربية،حيث تغلب ثقافة التفاصيل، وحيث المتتاليات الحكائية «التافهة» هي من يتكلف بتغذية النقاش والتقاطبات.
ضمن هذا السياق فإن النزوع الجديد لاتجاهات النقاش العمومي، اصبح ينحو للإشتغال على مواضيع أقرب ما يكون لما يعرف في لغة الصحافة بالأخبار المتفرقة(LES FAITS DIVERS)، حيث يقع نوع من التركيز الجماعي و«التبئير» على أحداث يومية ذات طبيعة عرضية،لتتحول داخل فضاءات التواصل الاجتماعي ومواقع الانترنت إلى صلب الاهتمام وقلب المتابعات، بل كثيرا ما تفرض هذه «المواضيع» نفسها على الفاعلين السياسيين ووسائل الإعلام التقليدية، الذين أصبح توصيفهم كصناع للرأي العام مجرد إحالة على الماضي،بعد أن تحولوا في كثير من الحالات إلى متلفقين لأجندة هذه «السرديات الصغيرة «التي تصنع بسرعة في شبكات التواصل، ليفرض عليهم بعد ذلك التفاعل معها واتخاذ موقف بشأنها».
ذلك أن عناصر هذه الأجندة تتحول إلى مواضيع محددة للتخندقات ومهيكلة للتقاطبات، هو ما ينعكس على الحدة التي تطبع العلاقة بين أصحاب هذه الاصطفافات الناشئة،والتوتر الإعلامي الذي يرافق الجدل حولها.
تتميز هذه المواضيع الجديدة للنقاش العمومي، بسرعة اشتعالها وسرعة إنطفائها، إنها صناعة استهلاكية قابلة للتلف الفوري، حيث يبدو معها الفضاء التداولي الجديد بدون ذاكرة، ينتقل في رمشة عين، من عنوان إلى آخر، ومن سجل إلى آخر. السرعة هنا لها وجه آخر، إنه السهولة، حيث كثيرا ما تنهض هذه البؤر الجديدة للنقاش العام على التمثلات الجاهزة والكليشيهات المستهلكة، ان الدعامات الجديدة للتواصل الاجتماعي،وهي تنطلق من تفاعل لحظي ومباشر، مع الأحداث، بشكل يجعل زمن الرأي هو زمن الفعل، تفرض التنازل على المسافة الضرورية للفهم والتحليل والقراءة، وهو ما يعني انتصار السهولة على العمق، ذلك أن الصورة تنتصر على الكلمة، والتعليق الصغير ينتصر على المقالة التحليلية، والانطباع ينتصر على الذكاء، وفي كثير من الحالات تنتصر الإشاعة على الخبر نفسه.
تحيل هذه العناوين المتناسلة، للوضع المزري للنقاش العام، ولانزياحه من دائرة الأفكار والمشاريع إلى متتاليات لانهائية من التفاصيل والجزئيات والأخبار المتفرقة والصور المتلاحقة.
الواقع أن المساهمة في هذا «النقاش «الذي يستحق بحث فرضية «عموميته»، كثيرا ما يخلق وهما بالمشاركة في الشأن العام، بدل أن يشكل تعبيرا حقيقيا عنها، ذلك أنه قد يجعل الشاب الذي «يقطن» وراء لوحة مفاتيح حاسوبه أو هاتفه الذكي،يبتعد عن أي تجسيد فعلي لمواطنته، ليظل مطمئنا للانتماء الافتراضي للهويات الاجتماعية الرخوة التي تقترحها عليه دينامية «السرديات الصغيرة» داخل وسائط الاتصال الجديدة.

بقلم : حسن طارق
copy short url   نسخ
20/05/2016
2617