+ A
A -
لولا أمي لما وجُدت، ولولا أمي لما تعلمت، ولولا أمي لما أصبحت ما أصبحت.. كانت هي صانعتي وهي مدرستي وهي ملهمتي، ومن أجلها عملت، ومن أجلها نجحت، ومن أجلها عشت لأقدم لها وللانسانية عصارة فكري وعملي وكفاحي.. تلك الكلمات الرائعة أهداها ابن إلى أمه عندما وصل إلى قمة المجد، الابن هو توماس اديسون والأم هي نانسي، وعبر الفيسلوف «جان جاك روسو» عنا جميعا بهذه الجملة: «لو كان العالم في كفة وأمي في الكفة الأخرى لاخترت أمي» الأم هي الأم، في الشرق أو الغرب، حتى لو كانا لا يلتقيان كما قال الشاعر الإنجليزي «روديارد كبلنج»، عطاؤها وحبها وتضحيتها لا ترتبط بزمان أو مكان، وغيابها يشطرك إلى نصفين، مهما تظاهرت بالقوة والتماسك، وذكر الأديب والصحفي الفلسطيني «ناصر الدين النشاشيبي»، في أحد كتبه الوقت العصيب الذي مر به حين وصلته برقية جاء فيها أن والدته التي تقطن بلدا آخر مريضة: «عندما دخلت إلى مكتبي في الجريدة وجدت برقية مستعجلة جاء فيها ان والدتي دخلت المستشفى بعد إصابتها بمرض مفاجئ وخطير! كان مقررا في مساء ذلك اليوم أن أكتب مقالي الأسبوعي، عن خطاب سياسي ألقاه رئيس الجمهورية في اليوم السابق، لكنني عندما أمسكت بالقلم لكي أكتب، لم أستطع ان أخط حرفا، لقد استحال بياض الورق المرصوص أمامي إلى سواد حالك، وطارت الأفكار من رأسي، وتجمدت الحروف على ريشة قلمي، وأحسست بدوار كاد ان يسقطني من مقعدي... ومرت ساعة كاملة وانا في ضيق وذهول، وكآبة جارفة، وكان صوت سكرتير التحرير يصلني كل دقائق عبر الهاتف يستعجل المقالة، ووجدت نفسي أتساءل، وهل من الضروري أن تكون اليوميات مقتصرة على السياسة وحدها.. ولماذا لا اكتب كل ما أحس به من قلق، وأفرغ على الورق كل ما أشعر به من ضيق وألم؟ الا يجوز للكاتب أن يكون بشرا؟ ألا يحق للصحفي أن يبقى مرة واحدة مع نفسه ومشاعره؟ لقد كنت أكتب دائما عن بلدي، لقد جعلت من بلدي موالا غنيته على العالم، لقد رددت اسمه آلاف المرات، وأهديته كتبي، ونذرت له تعبي وسهري وجهدي، ولكنني اليوم أشعر وكأن بعض بلدي يضيع مني، إن «الأم» هي بعض الوطن.. وهي بعض البلد.. وهي جذوري المغروسة عند هضاب القدس، وان لم يكن لأمي خير عندي فلن يكون لوطني عندي أي خير! وان لم أحب أمي فلن أحب وطني، فهي التي علمتني أبجديات الوطنية، هي مدرستي الكبرى التي نهلت منها الخير والفضل والرشد وكرامة الانسان! في ذلك المساء، بدلا من ان أكتب عن خطاب «جمال عبد الناصر» كتبت عن أمي! وبدلا من أن أخاطب رئيس مصر، خاطبت المرأة التي منحتني النور والدم والحياة، ولأن الرسالة طويلة أقتطف منها بضعة أسطر: «يا أحلى الامهات، كان «لنكولن» يقول للناس «كل ما أنا، وكل ما أريد ان اكون مدين به لأمي»، واقول لك انت بالذات، انك على العمر والدوام واحة حياتي، وبسمة أيامي، وحروف دعائي وبهجة أعيادي، بحبك أحببت حياتي، وبرعايتك وقوتك وجميل صنعك وطهارة قلبك مشيت على الدرب الطويل، أخدم بلدي، وأفخر بوطني» وأنهى خطابه الذي قرأه الجميع بالدعاء لها بالشفاء، واستجاب الله لدعائه لكنه تلقى برقية أخرى بعد سنوات قليلة حين كان يحضر عيد الاستقلال في الجزائر تتضمن نفس كلمات البرقية السابقة، حينها قال له الزعيم الجزائري احمد بن بيلا مواسيا: «كان الله في عونك، ان الشعور بقرب افتقاد الوالدة مصيبة لا تعلو عليها مصيبة في هذه الحياة».
وسافر الاديب والصحفي إلى لندن على عجل، حيث كانت والدته في غيبوبة.. لم تفق منها، وودع الابن والدته الوداع الاخير: «مع القبلة التي وضعتها على يديها الطاهرتين، وضعت كل ماعرفت من حب، وكل ما أحسست به من وفاء، وكل ما ملكت من معنى الحياة، وكل ما حبست من دمع وخوف، وكل ما ادخرت من حزن. ومنذ أن ودعتها، لم أعد أعرف ما هو الحب.. وماهي الحياة».
بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
15/11/2017
3647