+ A
A -
في ذكرى مرور مائة عام على وعد «بلفور» المشؤوم، لا بد من إعادة التذكير بالكارثة التي أصابت شعبنا العربي في فلسطين بسبب هذا الوعد الاستعماري الذي أطلقه «بلفور»، وزير خارجية بريطانيا، الدولة المستعمرة لفلسطين في ذلك الوقت، والذي أعطى من لا يملك لمن لا يستحق، وتسبب بنكبة الشعب الفلسطيني الذي هجر مئات الآلاف من أبنائه إلى الدول العربية والعالم،
وجرى تمكين العصابات الصهيونية، الهاغانا والأراغون وغيرها، من التسلل إلى فلسطين بدعم قوات الاحتلال البريطاني، الذي وفر لهذه العصابات كل السبل والإمكانات لتسهيل استجلاب عشرات آلاف المستوطنين الصهاينة من بولندا وألمانيا وغيرهما، حيث تعاونت العصابات الصهيونية في ذلك مع نظام هتلر في دفع الشباب من اليهود للهجرة إلى فلسطين الذين يحتاج إليهم المشروع الصهيوني للقتال واحتلال أرض فلسطين وارتكاب المجازر بحق أبنائها لإرهابهم وإجبارهم على مغادرة أرضهم خوفا من القتل.
هكذا تم زرع كيان صهيوني غاصب بتخطيط ودعم من الدولة الاستعمارية البريطانية بهدف جعل هذا الكيان قاعدة ارتكاز استعمارية لضمان منع العرب من التوحد وبقائهم تحت الهيمنة الغربية وبالتالي تمكين الشركات البريطانية والفرنسية من الاستيلاء على ثروات العرب النفطية ونهبها وحرمان العرب من الاستفادة منها لتحقيق تطورهم وتقدمهم.
غير أن هذا المشروع الصهيوني الاستعماري في فلسطين ما كان لينجح في اغتصاب فلسطين لولا تواطؤ العديد من الأنظمة العربية مع المستعمر البريطاني والفرنسي الذي قسم الوطن العربي، بموجب اتفاق سمي سايكس بيكو، إلى مناطق نفوذ بريطانية وفرنسية وزرع دولة غريبة في قلب جسد الأمة العربية.
ولهذا فإن نكبة فلسطين كانت نتيجة هذا التآمر الاستعماري وتواطؤ الأنظمة العربية الدائرة في فلكه، لكن ذلك لا يعفي القيادات الفلسطينية التي كانت سائدة في ذلك الوقت من المسؤولية أيضا عن هذه النكبة، ومسؤوليتها تتمثل في قبول الاعتماد على هذه الأنظمة ودورها الوسيط مع المستعمر للتوقف عن مواصلة الثورة الفلسطينية المسلحة عام 1936 والدخول في مفاوضات والمراهنة على وعود الاستعمار البريطاني لوقف الهجرة الصهيونية، فكانت النتيجة تمكين العصابات الصهيونية من الاستفادة من وقف النار والتقاط أنفاسها للحصول على المزيد من السلاح والعودة إلى شن هجماتها ضد العرب الفلسطينيين وارتكاب المجازر بحقهم والسيطرة على الأراضي التي احتلتها عام 1948 وإعلان دولتهم الغاضبة بدعم من الدول الغربية المهيمنة على المنظمة الدولية ومنحها الشرعية الدولية في أفظع عملية اغتصاب لحق شعب بغطاء ومباركة من المنظمة الدولية.
مع ذلك عاد شعب فلسطين وامتشق السلاح وأطلق مقاومته ضد الاحتلال من كل أماكن تواجده في محيط فلسطين وفي داخل فلسطين بعدما أدرك حجم تآمر وتخاذل الأنظمة العربية، غير أن القيادة الفلسطينية التي قادت الثورة الفلسطينية المسلحة التي انطلقت شرارتها الأولى في 1/1/1965 عادت ووقعت في نفس الخطأ عام 1982 وهو المراهنة على التفاوض وعقد الاتفاقات مع كيان الاحتلال الصهيوني بديلا من المقاومة المسلحة، وذلك في أعقاب مفاوضات سرية جرت إثر انسحاب قوات منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت بموجب اتفاق رعاه المبعوث الأميركي فيليب حبيب، وقد انتهت هذه المفاوضات بتوقيع اتفاق غزة أريحا أولاً، وهو الاتفاق الذي سمي باتفاق أوسلو نسبة للمكان الذي وقع فيه في النزوح. وكانت النتيجة أن وقع الشعب الفلسطيني ضحية خداع المحتل الصهيوني ومراهنة القيادة الفلسطينية على سراب وأوهام الوصول إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة في الضفة الغربية وقطاع غزة مقابل الاعتراف بوجود إسرائيل على الأرض الفلسطينية التي احتلت عام 1948، وكان من الطبيعي أن تكون النتيجة خيبة أمل جديدة وتمكن العدو الصهيوني من الاستفادة من المفاوضات على مدى أكثر من عشرين عاما، أي منذ عام 1993 وحتى يومنا هذا، وقام بجلب مئات الآلاف من المستوطنين من روسيا وإفريقيا ودول أوروبا الشرقية. وبناء المزيد من المستعمرات في الضفة الغربية ومحيط القدس في سياق مخطط مدروس لفرض أمر واقع جديد لمصلحته يجعل من المستحيل إقامة دولة فلسطينية متصلة جغرافيا وبالتالي تتمكن حكومة الاحتلال من فرض منظورها للتسوية الاستسلامية على قيادة السلطة الفلسطينية التي تحولت بموجب أوسلو إلى سلطة تابعة للاحتلال، أمنيا واقتصاديا وسياسيا، غير قادرة على قبول هذه التسوية المرفوضة من الشعب الفلسطيني لأنها تعني الاستسلام الكامل وتصفية القضية الفلسطينية، وفي الوقت نفسه هي غير قادرة على الخروج من أوسلو والعودة إلى المقاومة المسلحة بعد أن أصبحت غارقة بامتيازات السلطة ولا تريد التخلي عنها.
على أن ما أبقى القضية حية لا تموت استمرار الشعب العربي الفلسطيني في المقاومة والانتفاضة وعدم انخداعه بأوهام التسوية مع الاحتلال وما الانتفاضة الثالثة المستمرة بأشكال مختلفة والتي عجز الاحتلال عن وقفها ومنع شبانها من تنفيذ عملياتهم النوعية بين الفينة والأخرى إلا دليل ساطع على خيار الشعب الفلسطيني النقيض لخيار أوسلو الميت.
من هنا فإن هذه التجربة الجديدة- القديمة برهنت مجددا في ذكرى مرور مائة عام على وعد بلفور المشؤوم على أن الاحتلال لا يمكن مواجهته إلا بالمقاومة المسلحة والشعبية وأن أي رهان على التسوية معه بديلا عن المقاومة لن يقود سوى إلى الخسارة والخيبة والإذلال ومساعدة المحتل على توفير الغطاء له لتحقيق أهدافه ومخططاته التوسعية الاستعمارية.
إن التجربة التفاوضية مع الاحتلال والمراهنة على جنوح المستعمر نحو السلام تؤكد أن الطريق الأقصر للتحرير واستعادة الحقوق الوطنية لا يكون إلا عبر المقاومة المسلحة والشعبية سبيل الشعوب الظافرة التي احتلت أوطانها من فيتنام إلى الجزائر والصين واليمن وصولا إلى جنوب لبنان..
فهل تتعظ القيادة الفلسطينية من فشل رهانها على التسوية، وتعود إلى التزام خيار الشعوب المنتصرة والذي هو خيار الشعب الفلسطيني المنتفض ضد الاحتلال. فالمقاومة والانتفاضة وصمود شعب فلسطين في أرضه هو ما أبقى القضية حية لا تموت رغم مخططات الاحتلال وإرهابه.
بقلم : حسين عطوي
copy short url   نسخ
04/11/2017
2155