+ A
A -
استغربت وأستغرب دائماً ممن يستسهلون إيراد الكلمات في عناوين مقالاتهم دون تمحيص لغـوي. أيها الإخـوة التزموا بهـذا التمحيص في العناوين على الأقـل. وضع أحدهـم عنواناً لفقرة في مقاله «عماء ألوان» وهو يعرف أن الكلمة غـير صحيحة، بدليل أنه قال في صلب المقال «الصبي المصاب بعـمى الألوان» لكنه عاد فقال «أنا السـوري، الفلسطيني، المصاب بالعماء نفسه» ولو أنه أتعب نفسه بالعودة إلى المعجم، أو بسؤال أهل الذكر، لوجد أننا نقول «عميَ يعمى عمىً فهو أعمى وهي عمياء» ولكن! لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب.
من ضمن هـذا الاسـتسهال ما قرأته في عنوان إحدى المقالات «زوجات يرحبن بضراتهن» وبالمناسبة يخطئ معظمنا في نطق الكلمة، فهي «الضَرّة» بفتح الضاد، بينما نلفظها الضرة (بضم الضاد) ونعني بها عادة الزوجة الثانية، وهذا غير صحيح، الضرتان: امرأتا الرجل، كل واحـدة منهمـا ضـرة لصاحبتهـا، وخطأ الكاتب أنه جمع «ضرة» على ضرات، بينما لم ترد جمعاً إلا «ضرائر» فإذا كان كاتب يبلغ عمره المهني نصف قرن لا يتحرى الدقة، فهل أعتب على كاتب مبتدئ؟
لم أعد أذكر عدد المرات التي نبهنا فيها إلى هذا الخطأ الشنيع الشائع «يافطة» كقول أحدهم في مقالة «الجهود منصبة على توحيد يافطة الفصائل» مبتعداً ومبتعدين عن الكلمة الأصلية الصحيحة المعبرة «لافتة» ولعلكم قرأتم مئات المرات «ورفعـوا الأعلام واللافتات» واللافتة هي القطعة من قماش تشـد بين عصوين ليحملهـا اثنان، أو القطعة من ورق مقـوى يحملهـا شـخص واحد، وفي الحالتـين تكتب عـليها كلمات تعبر عـما يريد الشـخص أو الأشـخاص «لفت» الانتباه إليه، أما «اليافطة» فإنها اسم الفاعل المؤنث من فعل «يفط» والمصيبة أن هذا الفعل غير موجود في المعجم العربي، فلماذا هذا الجنوح إلى الخطأ؟
في صحيفة عربية مشهورة جداً قرأت لكاتب يقول إنه شاعر ومترجم ومؤلف ورسام مقالاً عـنوانه «ظرافات القـلم» ومن الواضح أنه يعـني ما يأتي به القلـم من الظرف. و»الظـرف» كلمة تحـمل الكثـير من المعـاني الجميلـة. الظـرف هـو البراعـة والذكاء، وقيل: هـو حُسـن العـبارة، وقـيل: الحِـذق بالشـيء، وقال الأصـمعي: الظـريف البليـغ الجـيد الكلام، وقـالـوا: الظرف في اللسـان البلاغة، وفي الوجه الحسـن، وفي القلب الذكاء، والظريف مشـتق مـن الظـَرف وهـو الوعـاء (ألسـنا نقـول الآن ظـرف الرسـالـة؟) فـكأن الظريـف وعـاء للأدب ومكارم الأخلاق، ونقول: ظـرُف ظـَرْفاً، ويجـوز في الشـعر أن نقـول: ظرافـة، وهي التي جاء بها الكاتب وجمعها، لكنه لم يكن يقول شعراً، أما كان يستطيع القول: ظرف القلم؟ فإذا أراد الجمع قال: من حكايات القلم الظريفة.
ولسـت أسـتغرب هذا ممن يقـول «في ذات الملجأ» وأدوات التأكيد: نفـس، وعـين، وجميع، وعـامة، وكلا، وكلتـا، وكل، وليـس بـينهـا «ذات» وكقاعـدة يـعـرفهـا المـبتـدئون: لا يـأتي «المؤكــِّد» قـبل المؤكـَّد كما هـو شائع الآن، فلا نقول: نفس الرجل، بل نقول: الرجل نفسه، والجبل عينه، فكيف إذا كانت الأداة التي استخدمها غير صحيحة؟
أو ممن يـقـول «وأصبحت السـاحة مـلوثـة بذروق الحـمام» ولا وجود لهـذه الكلـمة، بل هـو «الذرْق» ويقابل غائط الإنسان.
رحم الـلـه أيام الكتابة بالقـلم، وتسـليم المقالة باليد أو عن طـريـق البريد، أو حتى بالفـاكس، فـقد كانت المقالة «تُجمع» طباعـياً، ومن بعد كومبيوتـرياً، ويدقـقها المدقـقون اللغويون، أما زال في الصحف مدقـقون لغويـون؟ لا أعتـقد هذا، فالكاتب يكـتب مقـالتـه بالكومبـيوتر، ثم يرسـلها إلى الصحيفـة، فيتلقـاها المحـرر الذي يراقـب ما فيها دون الاقـتراب من اللغـة، ثم يحيلها إلى المخرجين الذين يعـيدون هندستها، لتصبح ملائمة للمساحة المخصصة، وانتهى دور التدقيق. في الصحف العالمية ثمة من يعيدون كتابة المقالة REWRITER كلها أو أجزاء منها ولا نطالب بهـذا، بل بعـودة المدقـق اللغـوي، كي لا نجد هـذا «الكمّ» من الأخطاء في مقالـة واحدة.
كتبـت إحداهـن في العـنوان «مُدرّسة ابنـتي العجـوزة جـداً» والمـرأة الكبـيرة السـن تسـمى «عجـوزاً» ويقول لسـان العرب: والعامة تسـميها عجوزة، هي إذن من العامية، والصحيح «العجوز جداً» وكتبت «وستبرينا الأيام كما برت من قبلنا» ولا علاقة للأمر بالبرء والشفاء بل هـو من «بري» الأقلام بالمبراة، وقالت «ثمة أحداث تدق ناقوس الزمن لتسـتفيقنا» وهي تعني «لتفيقنا» أي توقظنا، وقالت «لم نقابلهم ولم نراهم منذ الطفـولة» والصحيح: لم نرهم، لأنه معطـوف على فعـل مجزوم «لم نقابلهـم» وجـزم الفعل المقـصور حذف حـرف العلـة. وقالت: «ثم إنهما لم يتداولون» وهنا خطأ مزدوج، فالفعل يجب أن يكون «لم تتداولا» لأنهما بنتان، وهو مجزوم بـ «لم». وفي قولها «لا نسـعى لعلاج هكذا التصاق» خطأ مزدوج أيضاً، فالصحيح «نسعى إلى» والتعبير «هكذا التصاق» خطأ شنيع شائع، لأن الكلمة للتشبيه، فماذا شـبهت وبماذا؟ وفجأة أرادت أن تكون فصيحـة «نتمثـلهم ونحـذو حذوهم حذاء بحذاء» ولـو أنها شـطبت الكلمتـين الأخيرتين لسـلمت، فالعرب تـقـول «حذوك النعل بالنعل» وهذه ليست شتيمة، قال عمر بن أبي ربيعة:
فـلمـا تواقـفـنـا عـرفـت الـذي بـهـا كمثل الذي بي حذوك النعل بالنعل
وأرادت أن تـتفاصح أيضاً فـقالت «فـوضعـت يدي على فاهي» أي: على فمي، يا للروعـة! ونسـيت أن «فو» من الأسـماء الخمسـة، وهـذه ترفع بالواو، وتـنصب بالألف، وتجر بالياء، ولعلكم تذكرون حكايـة الأصمعي عن بنت بدوية سـمعها تـنادي أباها وبين يديها قربة ماء: «يا أبت أدرك فاها، لا قـدرة لي على فيها، قد غـلبني فوها» أما كان أولى بالكاتبة أن تقول: «على فمي» وخذوا هذا المثال على الركاكة مع وجود خطأ لغوي أتركه لكم لتـتبينوه: حـتى أننـا (إننـا) من سـرعـة إفـلات الأمس مـن بيـن أيدينـا، فـإنـنا نـحـاول الإمسـاك بـهـمـا ولـو بذاكرتنا.
نبهـت كثيراً إلى خطأ شــائع في لغـة الصحافـة والأخبار هو «التـواجد»: وقال بعض الذين كانوا متواجديـن في مكان الحادث، وقد اسـتعملت قوات الأمن المتواجدة في الشـارع. كتب كاتب يزين اسمه بلقب دكتور» لماذا هذا التواجد الغريب على الأرض السورية» والتواجد: ادّعاء الوجْد، وهو يشـمل معاني كثـيرة في الغـضب والحزن وغيرهما، لكنه شـبه مختص بالحب، نقول: وجد بها وجْداً شـديداً: إذا كان يهـواها ويحبها. أما المقصود في الأخبار فهو الوجود، من فعل: وجد الشيء.
يـزعـج القـارئ المـدقـق اســتخـدام بعـض الكتـاب عـلامات التـرقـيـم بصــورة خـاطئـة، فيضعـون النقـطة مكان الفـاصلة، وعلامة الاسـتفهام مكان النقـطة بعشـوائية بشعة. أهـم العـلامات: الفاصلة، الفاصلة المنقـوطة، النقطة، والنقـطتان، عـلامة الاسـتـفهام، علامة التعجب وسـأنبه إلى الفاصلة المنقـوطة ؛ لكثرة ما أجدهـا في المكان الخطأ، وأشـهر اسـتعمالاتها بين جملتـين تكون ثانيتهما مسـببة عن الأولى أو نتيجة لها، مثل: لا تصاحـب شـريراً؛ لأن صحبـة الأشـرار تردي، وبين جملتـين تكون ثانيـتهمـا سـبباً في الأولى مثـل: احترس من الإهمال؛ حتى لا يتفوق عليك غيرك. إحدى الكاتبات مغرمة بعلامة الاستفهام، حتى إنها قد تضع أربع علامات بعد كلام ليس سؤالاً ولا استفهاماً.
بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
28/10/2017
2008