+ A
A -

ثمانية وستون عاما مرت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة تقسيم فلسطين واعلان قيام دولة اسرائيل. رفضت الدول العربية القرار وخاضت حرباً كارثية انتهت بما بات يعرف بـ «نكبة 1948». كان من نتائجها أن أخرج قسم كبير من الشعب الفلسطيني من أرضه، وأن أتمت إسرائيل سيطرتها على المنطقة الجغرافية التي خصصت لها في قرار التقسيم، وعلى مناطق أخرى خصصت لدولة فلسطين العربية بموجب القرار ذاته.
نكبةٌ تبعها نزوح وتشرد عشرات الآلاف من الفلسطينيين في مختلف الدول العربية المجاورة، حيث عانوا من القهر والاضطهاد والذل والفقر والتمييز ومحاولات الإلحاق وطمس الهوية.
يومها أصرت الحكومات العربية، سواء التي تتحمل مسؤولية النكبة أو تلك التي انقلبت عليها لاحقا باسم التحرير واستعادة كل فلسطين «قضية العرب» تحت راية العروبة والوحدة، على رفض التقسيم والاستمرار في المواجهة. وراحت تعد العدة وتحشد الجيوش والسلاح وكل الطاقات ليوم الحسم، تحت الشعار الذي رفعه يومها جمال عبد الناصر «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة». كانت مرحلة الخمسينيات تفترض ترسيخ الكيانات وبناء الدول الخارجة من تحت نير الاستعمار أو الانتداب أو الناشئة حديثا، مع ما يستلزم ذلك من وضع أسس لاقتصاد متين يعزز الاستقلال السياسي. وكان من المفترض أيضا بالنسبة لتلك الأنظمة الانقلابية، التي ادعت التقدمية والاشتراكية، ان تعني تلك المرحلة إشراك الناس في بناء الدولة وصناعة القرار لكي تتمكن من المشاركة في عملية التحرير ثم التحرر والبناء وو...
غير ان تلك الانظمة ذهبت إلى حرب ثانية في 1967 وحصدت الهزيمة بعد النكبة، وكانت نتيجتها توسع اسرائيل واحتلالها أراضٍ عربية جديدة - وليس استعادة العرب أراضي - كهضبة الجولان السورية التي لم يسعَ نظام آل الأسد منذ خمسين سنة إلى تحريرها، ولكنه يمارس اليوم حرب إبادة جماعية ضد شعبه.
كان ممنوعا ان يتقدم أي هدف على شعار «تحرير فلسطين»، الذي كان يعني في الوقت عينه كل شيء ولا شيء، وان يبقى هدير المعركة عاليا لكي يصم الآذان، ويعطل العقول، ويرهب أصحاب الرأي ويخونهم.
وبالتوازي مع رفض قرار التقسيم ورفع شعار التحرير، عمدت تلك الانظمة القومية إلى رفع شعار «الوحدة العربية» لتضليل الرأي العام، وبالأخص دول أنظمة «حزب البعث» التي حاولت إيهام شعوبها ان الوحدة هي الرد على التقسيم، تقسيم فلسطين بطبيعة الحال، وان التحرير هو مهمة كل العرب، من المحيط إلى الخليج! فيما فشل أول مشروع وحدة بين مصر وسوريا (1958-1961)، والأسوأ من ذلك فشل جناحا «البعث» - صاحب شعار «أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة» - في كل من سوريا والعراق في تحقيق الوحدة، لا بل ناصبا بعضهما عداء مستشريا طيلة إمساكهما بالسلطة في البلدين المتجاورين على مدى اربعين سنة.
استعمل شعار «الوحدة العربية» على مدى عشرات السنين، وبقي مرفوعاً من قبل الانظمة القومية العسكرية، البعثية وغير البعثية، للمزايدة أولاً وتحديدا على الفلسطينيين أنفسهم، أصحاب الوطن والأرض السليبة. وثانياً، لابتزازهم وفرض وصايتهم على القرار الفلسطيني باسم وحدة الموقف ووحدة القرار، أو لإحداث شقاق ونزاعات بينهم. وثالثاً، على العرب لإحكام سيطرتهم على السلطة وابقائهم حالمين، مشدودين إلى الشعار الشعبوي البراق، وبالتالي مخدرين، خاضعين وعاجزين بالتالي عن الانتفاض بوجه سياسة القمع والتضليل وكم الأفواه!
كانت سياسة المطالبة بكل شيء تعني عمليا رفض كل شيء وعدم الرغبة في الالتزام بأي شيء، أو السعي لتحقيق إنجاز محدد. كان الاصرار على رفع شعار الوحدة العربية سلاحا تضليليا يستعمل لستر عورة تلك الانظمة، ولتبرير عجزها السياسي والبنوي المديد. وها نحن اليوم، بعد اكثر من نصف قرن أمام ثورات مجهضة وتمدد أخطبوطي إيراني في العمق العربي نتيجة لسياسة تلك الانظمة نفسها، وسلطة فلسطينية متروكة لمصيرها...
سعد كيوان
copy short url   نسخ
17/05/2016
2348