+ A
A -
لأول مرةٍ بعد الحربِ العالميةِ الثانيةِ يتمكّن اليمين المُتطرف في عدةِ دول من دول الغرب الأوروبي من الصعود البرلماني، ومن تحريرِ الخطاب العنصري، وتقديمه بكلِ أريحيّةٍ للجمهور العام. فأحـزاب اليمـين المُتطـرف نجحت بحدودٍ معينة في خلـقِ عنصـريةٍ شعبويةٍ جماهيريةٍ تتواءم مع خطابها السياسي، في تطور مُثير وملحوظ منذ عدة سنوات، حين ترى معظم دول الغرب الأوروبي وهي ترفع شعاراتِ الديمقراطية وحقوق الإنسان وقد باتت خريطتها السياسية الداخلية، تَضُمُ في صفوفها أنصاراً للاستبداد بكل ألوانه وأهدافه، وألواناً من الأحزابِ ذات النزعاتِ الشعبويةِ القومجيةِ، وحتى النازيةِ، التي بات بعضها في العديد من المدن الألمانية يستحضر شعارات ألمانيا الهتلرية.
إنَّ الدروس المُستخلصة من الجولاتِ الانتخابيةِ البرلمانيةِ المتتاليةِ التي جَرَت في عدةِ دولٍ من دولِ الغربِ الأوروبي في الفتراتِ الأخيرةِ، تشي بموجةِ صعودٍ للشعبوية والتطرف اليميني، والتي يؤذن استمرارها في السنواتِ القادمةِ بمزيدٍ من الميل نحو التطرف في تلك البلدان، وبالتالي في توقعِ إحداثِ تغييراتٍ عميقةٍ في توجهاتِ دول الغرب، تغييراتٍ يُمكن لها أن تنعكس على العالم ككل، اقتصاديّاً وسياسيّاً، بالنظر إلى أهمية تلك الدول على الساحة الأمميةِ. وقد ظهر ذلك جليّاُ في عدة وقائع حية وملموسة، كان منها: تصويت البريطانيين، بتشجيع من اليمين واليمين المُتطرف، منتصف العام الماضي، لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي. كما كان منها حصول حزب (مارين لوبين) اليميني المُتطرف في فرنسا على أكثر من أحد عشر مليون صوت في الجولة الثانية من انتخاباتِ الرئاسةِ قبل عدةِ شهور. كما كان آخرها الانتخابات الطازجة الأخيرة في ألمانيا مع وصول ثمانِ وثمانين مرشحاً عن حزب البدائل اليميني المُتطرف إلى البرلمان الألماني (البوندستاغ).
وفي حقيقة الأمر، يُعَدُّ بروز اليمين المُتطرف على الساحةِ السياسـيةِ الأوروبيـةِ إحـدى أكثـر الظـواهر السياسـيةِ أهميـة خلال العقدين الأخيرين من القـرن المنصـرم في أوروبـا عموماً، والغربية خصوصاً. وهـذه الظـاهرة ليسـت علـى مسـتوى واحـد في أوروبـا كلها. فإذا كانت بعض الدول مثل ألمانيا وفرنسا وايطاليـا وبلجيكـا وهولنـدا والنمسـا تواجـه وضـعاً يـؤثّر بعمـق علـى نظمهـا السياسـية، فـإن غيرها مثل بريطانيا واليونان والسويد ما تزال حتى الآن أقل تأثراً بهذا المد المُتطرف. فضـلا عـن ذلـك فـإن أحـزاب اليمـين المُتطـرف في أوروبـا وعلـى الـرغم مـن أنهـا تشـترك بعـددٍ مــن الأهــداف أو الشــعاراتِ المشــتركةِ، مثــل معارضــة الهجــرة، ومعــاداة الأجانــب، وانتقــاد الطبقــة السياســية الحاكمة، فإنها تبدي في الوقت نفسه اختلافاتٍ غير قليلةٍ تعوق أحياناً تقاربها على المستوى الأوروبي.
إنَّ تلك الأحزاب، والمقصود أحزاب اليمين المتطرف الشعبوية، مثل حزب «جوبيك» المجري، و«الفجر الذهبي» اليوناني، وحزب «أتاكا» ببلغاريا، وحزب رابطة الشمال بإيطاليا، وحزب البديل من أجل ألمانيا، وحزب بوديموس بإسبانيا، وحزب الحرية بالنمسا، وحزب الجبهة الوطنية بفرنسا، وحزب الشعب بالدنمارك.. وغيرها، تَعمَل بشكلٍ حثيث على صياغة توجهاتٍ جديدةٍ تسعى فيها لإغلاق أوروبا عن العالم، وهو ما بَرَزَ جلياً في حملاتِ الحزب الألماني اليميني الأخيرة، من دعوته للتضييق على الإسلام، والحد من تدفق المسلمين إلى البلاد، ونقد الهجرات الأخيرة للسوريين والعراقيين وغيرهم، والتشكيك بعملية دمج مليون مهاجر في المجتمع الألماني، كما تنادي انجيلا ميركل، وبالتالي الحد من اهتمام الغرب بشؤون الشرق الأوسط وإفريقيا، حيث غدت مشكلة المهاجرين أحد أبرز التحليلات التي يُقدمها المنظِّرون لإشكاليات صعود أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا.
وعليه، إنَّ صعود اليمين المُتطرف في دول الغرب الأوروبي، حال استمر تقدمه، سينعكس سلباً على تماسكِ مجموعة اليورو ودول الاتحادِ الأوروبي، حيث تتبنى أغلب تلك الأحزاب توجهاتٍ قوميةٍ مُتطرفةٍ، تعتقِدُّ فيها أن الاتحاد الأوروبي يُضعف الهويةِ الوطنيةِ، مقابل فشله في تحقيق مستوى مرتفع ومستقر من الازدهارِ الاقتصاديِ والاستقرار الاجتماعي.

بقلم : علي بدوان
copy short url   نسخ
03/10/2017
2096