+ A
A -
هل صحيح أن طول زمن الممارسات السياسية على نمط لا يتغير، بينما الزمن نفسه قد تغير، يخلق لدى من يتربع قسرا على مقعد الحكم، منفردا بالقرار والتفكير، رؤية نفسية أكثر منها واقعية للتعامل مع القضايا السياسية؟. مما يضع فوق عينيه غمامة من الوهم، تجرده من الإدراك، بأن العالم الذي اعتاد عليه لم يعد كما كان.
البعض من المهتمين بعلم التاريخ، والعلوم السياسية، يرون أن هذا صحيح إلى حد كبير، منهم المؤرخ الأميركي ذائع الصيت ريتشارد هوفستادر، أستاذ علم التاريخ الأميركي بجامعة كولومبيا، وآخر مؤلفاته «معاداة العقلانية في الحياة الأميركية».
هوفستادر أصبح مرجعا في ما يتعلق بالعقيدة الكامنة في العقل السياسي للأميركيين، منذ مقولته الشهيرة: أن الأميركيين لا يرون أن بلادهم في حاجة إلى أيديولوجية، لأنهم يعتقدون أن أميركا في حد ذاتها أيديولوجية، ويلزم أن يأخذ العالم بأفكارها وقيمها.
وفي آخر كتابات هوفستادر جاء قوله: إن السياسة الأميركية كانت عادة ميدان صراع للعقول الغاضبة. ففي السنوات الأخيرة، وجدنا عقولا غاضبة، نشطت أساسا بين الأجنحة اليمينية المتطرفة، التي أظهرت كيف أن قوة النفوذ السياسي، يمكن أن تخرج عن حدود الخصومة، والمشاعر المتعصبة. ولكنى أعتقد أن ما يكمن وراء ذلك، هو نوع من التفكير، ليس بالضرورة أنه يميني التوجه. لأنني وصفته بأنه حالة من جنون العظمة، ولأنني لم أجد وصفا آخر لحالة المبالغة الملتهبة، والشكوك، والخيال الجامح والتآمري، الذي وجدته في هذا العقل.
وأنني حين أتحدث عن نمط جنون العظمة فإنني لا أقصد ظاهرة طبية، بل إني أستوحى المصطلح الطبي هنا، لأغراض أخرى.
والحقيقة أن فكرة نمط جنون العظمة كقوة دافعة في السياسة، قد لا تجد شبيها لها في الظروف التاريخية، أو المعاصرة، إلا لدى رجال يعانون فعلا من اضطراب عقلي. وأن ما يجعل لتعبير جنون العظمة أهمية هنا، أننا نجده لدى أشخاص عاديين بدرجة أو بأخرى، لكن استولى عليهم هوس نفسي وليس جنون عقلي.
وبالتالي فإنني مهتم هنا بالنظر إلى سيكولوجية القائد السياسي، من خلال مبادئ علم السياسة، وحيث إن جنون العظمة هو ظاهرة قديمة ومستمرة في حياتنا العامة، ارتبطت عادة بأشخاص تتسم سلوكياتهم بالرفض الدائم والعام لكل شيء، لا يتماشى مع طبيعة نظرتهم للأمور.
إن هذا التشخيص لواحد من المؤرخين الذين أصبحت تحليلاتهم، موضع اهتمام ودراسة من علماء السياسة والاجتماع، يطرح على الناحية الأخرى، جانبا تاريخيا من ظاهرة عانى منها وطننا العربي، واستمرت عشرات السنين، على يد حكام، ما إن يصل الواحد منهم إلى السلطة، إما نتيجة انقلاب، أو عن طريق انتخابات مزورة، إلا وقد تجده – مع طول المقام في مقعد الحكم – دون إتاحة الفرصة لمنافس، أو بديل، وقد أصيب بجنون العظمة كحالة مرضية مستعصية، وهنا يوجد الفارق بين العارض النفسي، والطبي، ففي مناخ انفراده المزمن بالسلطة، يتجرد من الإحساس الإنساني الطبيعي بأنه مخلوق يخطئ ويصيب. وتتضخم ذاته في عينيه، وكلما مد بصره فهو يرى ذاته تتداخل في مساحة الدولة، حتى تمتزج بها، وتنزاح الدولة من أفق رؤيته للأشياء، عندئذ يرى نفسه والدولة سواء، رافضا حق أي من مواطنيه في الاختيار.
وتصبح الدولة عنده، ملكية خاصة بما فيها، ومن فيها. وبالتالي يلجأ إلى نظام توريث أبنائه من بعده. وكأنه حق طبيعي له، لا يجادله فيه أحد. وحين يخلفه الابن في السلطة، فهو لا يرث عنه الحكم فحسب، بل يرث أيضا عقلية الأب المصاب بجنون العظمة، بكل ما يشوبها من شوائب، وقصور عقلي.
بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
30/08/2017
2866