+ A
A -
الغربة، غربتان.. واحدة عن الوطن، والاخرى غربة في الوطن.. والوطن- في النهاية- ليس هو الجغرافيا والتاريخ فقط..
الوطن إنسان، والإنسان لا يمكن أن يعيش وحيدا، وإن كان حين يموت، يموت حيدا.. وحين يقف أمام الحق عز وجل، يقف وحيدا!
في الغربة الأولى، تحمل الوطن حيثما اتجهت، اشواقا وحنينا وصدى ذكريات..
وفي الغربة الثانية، لا تحمل غير الخريطة والتاريخ.. والأسى.. الأسى لأنك إذ كنت فيه، لم تجد الإنسان: الصاحب، رفيق الضحكة، والدمعة،
والفكرة، والخيال، والمشاعر الصادقة الدفيئة.
أكثر من عشرين عاما، وأنا أحمل وطني- في غربتي بمفهومها الأولاني، برغم أنني لم أعد في غربة هنا، وقطر قد صارت موطني، بالمعارف والصحاب من كل جنس ولون ولسان، وما اكثرهم.
جميل في هذه الدنيا، أن يكون لك وطنان.
كانا لي.. وكانت قطر بالتالي تمثل لي- انا أيضا- الجغرافيا والتاريخ.. وتمثل لي الإنسان.
ما ليس جميلا على الإطلاق، أن تعود إلى وطنك (الأم) ولا تجد إنسانك.. وتلك هي الغربة في مفهومها الثاني، وماااا... ما أشقاها تلك من غربة.
عميد السلك الدبلوماسي- هنا في الدوحة- السفير الخلوق علي ابراهيم، كان السودان له وطنا- مثل وطنه إريتريا- يوم كان فيه- أيام النضال- وكان له فيه صحاب وصحاب.
قلتُ له بالامس- عبر الهاتف- إنني أحزم الآن حقيبتي، عائدا إلى السودان، وفي النفس ارتعاشة بكاء، على وطني هذا الجميل، والذي جمّل حياتي لأكثر من عشرين عاما، بخيراته، ومعجزته الحقيقية، وكرم ارواح مواطنيه.. وجمّلها بالصحاب: عربا وعجما!
هو لم يرد أن يفجعني، لكنه كان قد أحس بالفجيعة في السودان، حين عاد إليه- قبل سنوات- وراح يسأل بالتالي صاحبنا الشاعر الفذ محمد طه القدال، عن فلان وفلان وفلان.. عن اصحابه ندماء روحه وافكاره ووجدانه وخياله..
أحس بالفجيعة، والقدال يقول له- فيما يشبه البكاء ايضا- ان فلانا قد مات.. وكذا فلان وفلان.. وصاحبك الفلاني قد هاجر مثل فلان وعلان، مثل آخرين كثر!
في الوقت ذاك، أحس صاحبي السفير، أن السودان ما عاد وطنه الثاني، والوطن- كما هو جغرافية وتاريخ- هو ايضا- في تمام تجلياته: إنسان. في الوقت ذاك، احس بطعم الفجيعة. في الوقت ذاك، اتخذ قرار الرحيل، بأسرع ما يكون.
كان..
«الكلام لك يا جارة حتى تسمعي يا كنة».. كانت تلك، رسالة السفير علي- قد اتخذت ما وراء ذلك المثل القديم- وأنا أخبره أنني عائد عما قريب إلى السودان.
سأصير مثله، أسأل عن الصحاب، وسأفجع بموت من مات، ورحيل من ارتحل.. وسأشعر- في النهاية- أن وطني الذي كان فسيحا بالصحاب، قد أصبح أضيق من أنفاس من تخنقه العبرات خنقا!
آه، ايها الوطن الصحاب..
آه لنا من دون الصحاب!
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
23/08/2017
2995