+ A
A -
لعقود طويلة، اشتكى العالم العربي، مر الشكوى، من تجاهل الإعلام العالمي لقضاياه المصيرية، والتعاطي معها تبعا لمصالح وأهواء السياسات الغربية.
كان من نتائج التجاهل والانحياز، تشكيل رأي عام غربي معاد في مجمله للتطلعات العادلة للشعوب العربية، بسبب غياب الرأي الآخر، بصورة كاملة.
لقد أدركت قطر، دون غيرها، أن هذا العجز يجب ألا يستمر، وأن مخاطبة الرأي العام العالمي تحتاج إلى جهود استثنائية لوضعه في صورة الحقائق، بلغته التي يفهمها ويُحسن الإصغاء إليها بعيدا عن كل ما كان سائدا آنذاك، وهو إعلام رسمي بمجمله غير قادر على نقل الصورة الحقيقية، بسبب عجزه وتكبيله بمجموعة هائلة من المحظورات، وفي كل الأحوال فإن هذا الإعلام كان هدفه الرئيسي الترويج للأنظمة الحاكمة وتغطية أنشطتها البروتوكولية فكانت نصف نشرات الأخبار عبارة عن «استقبل وودّع »!
عام «1996» انطلقت الجزيرة تحت شعار «الرأي والرأي الآخر»، وحققت شهرة وانتشارا على المستوى الدولي، ساعدها في ذلك الأحداث التي شهدتها المنطقة والعالم، بدءًا من اعتداءات الحادي عشر من سبتمبر «2001»، مرورا بأحداث أفغانستان والعراق، عبر تغطيات حية ومباشرة، وصولا إلى ثورات «الربيع العربي»، حيث لعبت هذه المحطة دورا كبيرا في تقديم الحقائق مجردة، وتحولت بحق إلى صوت الجماهير العربية التواقة إلى التحرر من عبودية أنظمتها القمعية.
الجزيرة لم تكن مطلبا شعبيا عربيا فحسب، بل كانت مطلبا رسميا أيضا حيث اشتكت الحكومات، أكثر من الشعوب، من تجاهل قضايانا خارج حدودنا، وتأثر العالم بما يراه على الشبكات والمحطات التليفزيونية العالمية، وعندما انطلقت الجزيرة لتصحيح الصورة ولا نقل تجميلها، وجدت العداء من الحكومات، التي رأت فيها توجهاً لا تريده، وجرأة لم تعهدها، ونقداً لم تتعود عليه، فبقيت على رؤيتها الأحادية القاصرة!
خلال كل هذه السنوات كانت الجزيرة أمينة مع الشعار الذي اختارته لنفسها، وعلى الرغم من انحيازها للشعوب العربية، إلا أنها لم تغفل يوما «الرأي الآخر»، ومع ذلك فإن سنوات «التضليل والتعتيم» الطويلة التي مارستها الأنظمة الديكتاتورية أدت إلى مضايقات وضغوطات من جانب الذين اعتقدوا أن في مقدورهم تحويلها عن هدفها، أو تحويل مسارها وإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.
لقد رأينا كيف تحولت جلسة مجلس وزراء الإعلام العرب، في الجامعة العربية، إلى مناسبة من جانب البعض لمهاجمة قطر ومحاولة النيل من إعلامها التنويري، كانت المفاجأة أن يتحول وزراء إعلام، تُناط بهم مسؤولية هامة وجسيمة، إلى أدوات للتحريض ضد قطر، في اجتماع من المفترض أن يدافع عن الحريات الصحفية، لا أن يعمل على وأدها، وفي اجتماع يتعين أن يجمع لا أن يفرق، لكن ما حدث كان كارثيا، بل وكان مفجعا، والذين اتهموا قطر وإعلامها بالتحريض، هم حقيقة لا يتابعونه بسبب الحظر الذي فرضته دولهم عليهم، والأنكى والأمرّ أنهم لا يتابعون حتى إعلامهم، وإلا لكانوا اكتشفوا دون عناء من يقف وراء التحريض والتلفيق ونشر الأكاذيب، بوقاحة منقطعة النظير.
أيضا لا يمكن أن ننسى اجتماع وزراء إعلام الحصار في جدة، والهجوم على الجزيرة التي باتت هدفها يجب تدميره، وقبل الاجتماعين كانت هذه المحطة ضمن أبرز الأهداف على قائمة المطالب الـ«13» سيئة الصيت والسمعة.
بالأمس أعلن وزير الاتصالات الإسرائيلي أيوب قرّا أن إسرائيل قررت إغلاق مكاتب قناة الجزيرة وسحب اعتماد صحفييها، أسوة بما فعلته «دول عربية سنية معتدلة»، في إشارة إلى الدول المحاصرة لقطر، مؤكدا أن إسرائيل ترغب بتحالفات مع تلك الدول والوصول إلى السلام والشراكة الاقتصادية معها، وبالتالي «لا يمكن أن تقف مكتوفة الأيدي» بعدما حظرت تلك الدول قناة الجزيرة.
إغلاق مكاتب الجزيرة إذا له هدف أساسي، أوضحه الوزير الإسرائيلي بـ«عظمة لسانه» الوصول إلى السلام والشراكة مع تلك الدول، ويبدو أن هذه الخطوة المشبوهة باتت أقرب من أي وقت مضى، ولم يعد هناك سوى بعض اللمسات الأخيرة، ومنها إغلاق مكاتب الجزيرة كشرط، فيما يبدو من دول الحصار، للمضي قدما في هذا التقارب، الذي وصفه بالشراكة.
يقول المثل: «البعرة تدل على البعير»، والوزير الإسرائيلي قرّا دلّنا على البعر والبعير معا، لذلك لم يكن غريبا أن تتوج تل أبيب انتهاكاتها المستمرة لحقوق الإنسان الفلسطيني، بانتهاك إعلامي فاضح من نوع إغلاق مكاتب الجزيرة، أما الإعلان عن أن الإغلاق تم بسبب تغطية هذه القناة لأحداث الأقصى فليس له محل من الإعراب على الإطلاق، فهو جاء إرضاء لدول الحصار، وكل ما كانت تنتظره إسرائيل مجرد شرارة لإشعال الحريق، وهي سارت في ذات الطريق الذي سلكته قبلها دول الحصار عبر شرارة الحديث المفبرك بعد قرصنة وكالة الأنباء القطرية، لنجد أن الأمور كانت مبيتة، تماما كما هو الحال بالنسبة لإغلاق مكاتب الجزيرة بزعم طريقة تغطيتها لأحداث الأقصى، ومما قالته إسرائيل في معرض تبريرها إن الجزيرة تحرض وتشجع على التطرف والإرهاب.
هذا التشابه في الموقف واللغة مع طرح دول الحصار لم يكن مصادفة، ولا «سقطة» إسرائيلية، بقدر ماهو موقف متعمد للتماهي مع الدول الأربع، هدفه تقريب المسافات وصولا إلى الشراكة التي تحدث عنها قرّا.
نحن أمام حملة إسرائيلية شرسة ضد القناة، مهد لها رئيس الوزراء بنيامين نتانياهو أواخر الشهر الماضي وتكشفت خيوطها بالأمس عبر قرار الإغلاق، على الرغم من المزاعم التي دأبت إسرائيل على ترويجها عبر ادعائها أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الاوسط، لنكتشف أن كل ذلك مجرد صور تجميلية ليس أكثر قررت تل أبيب التخلي عنها لصالح ماهو أهم: الشراكة مع دول الحصار.
المذهل أن دول الحصار لم تبد أي اعتراض على التبريرات الإسرائيلية، بل آثرت الصمت المريب، والتهليل لقرار الإغلاق عبر مواقع التواصل التي تسيرها بالريموت كونترول.
الوقاحة الإسرائيلية لا تقل عن وقاحة أبوظبي التي اخترقت وكالة الأنباء القطرية، وبثت الحديث المفبرك الشهير عبره، ومع أن قطر أوضحت خلال أقل من ساعة أن الحديث مفبرك وأن الوكالة تعرضت للقرصنة، إلا أن وسائل إعلامهم تجاهلت كل ذلك، وعمدت إلى ترويج ما كان مبيتا، دون أدنى اعتبار للحقائق التي تم «اغتيالها» عمدا ومع سبق الإصرار، والآن علينا أن ننتظر ونرى كيف ستبرر إسرائيل قرار إغلاق مكاتب الجزيرة، وإن كنا نعتقد أنها ستهتدي بأبوظبي وطريقة معالجتها الجرمية، عبر القرصنة والفبركة سوى توجيه الطلبات الوقحة لقطر من أجل مراجعة سياساتها.
الجزيرة نقلت أحداث الأقصى للعالم نيابة عن الفلسطينيين والعرب والمسلمين جميعا، وقطر قدمت من المساعدات الكثير في سبيل تمكين الفلسطينيين من الصمود على أرضهم، لم تدر ظهرها في أي وقت، ولم تتأخر عن نداء الواجب، تماما كما فعلت الجزيرة وهي تتابع أحداث الأقصى، في حين رأينا كيف تعاطت قنوات الخذلان المشبوهة مع حدث يمس جزءا غاليا من شعبنا ومع مقدسات لا يقبل أحد المساس بها.
لست في وارد المقارنة بين الجزيرة، وبين قنوات الفتنة كالعربية وسكاي نيوز، فما تعرضه من سموم لم يعد خافيا على أحد، ولم يعد ينطلي حتى على مواطني دول الحصار، وعلى الرغم من كل ذلك، بقيت الجزيرة وفية لشعارها (الرأي والرأي الآخر) واستمرت تعرض كل وجهات النظر، بما فيها الإسرائيلية أثناء تغطيتها لأحداث الأقصى.
لقد قدمت قطر مساعدات هائلة لتعليم وتدريب الشباب في الكثير من الدول العربية والإسلامية، في حين أن آخرين كانوا يقدمون الدعم والمال لمعسكرات تدريب الإرهابيين، هذا هو الفارق بين ما تفعله قطر، وما فعله الآخرون، هذا هو الفارق بين دولة تقدم الأمل، وأخرى تروج للخيبة والإحباط، وبالتحدي هذا هو أيضا ما تقدمه الجزيرة وما تروج له فضائيات العار.
هناك مثل انجليزي يقول: «انكار الخطيئة يعنى ارتكابها مرتين»، وهؤلاء الذين يتجاهلون مسؤوليتهم الموثقة فيما يتعلق بالإرهاب، ثم يحاولون إلصاق التهم جزافا بقطر، يرتكبون الخطيئة مرتين، ويرتكبون خطيئة أكثر إجراما بإقامة علاقات عدو العرب الأول، الذي هو بصدد التحويل إلى شريك استراتيجي.
توقفوا، حان الوقت لتتوقفوا وتخجلوا وتدركوا أن الأكاذيب باتت مفضوحة وممجوجة وكريهة، فالكذب، كما قيل، لا خير فيه، ولا حلاوة لراويه، ولا قبول عند سامعيه، وهذا حالكم، وحال إعلامكم، لذلك اصطف العالم مع قطر، ومع عدالة قضيتها وهي تتصدى لإثم الاتهامات وعدوان الحصار، وهي بالتأكيد ماضية في هذا الطريق، طريق الحق في مواجهة الباطل وافتراءاته.
والجزيرة هي الأخرى ماضية في الطريق الذي رسمته لنفسها منذ البداية، وفية لشعارها وللآمال المعقودة عليها.
في الحديث عن الأكاذيب، لم تكن «العربية» ولا «سكاي نيوز» وحدهما من تجرد من كل قيمة مهنية أو أخلاقية، فهناك العديد من وسائل الإعلام الأخرى، كما هو الحال بالنسبة لبعض القنوات المصرية، ولبعض الصحف السعودية والإماراتية التي «فجرت» في الخصومة، على النحو الذي أثار حفيظة شعوب دول الحصار، قبل أن يثير حفيظة أي أحد آخر.
من المؤسف أن تتعرض الجزيرة لسهام النقد والتجريح، لصالح إعلام فاجر يريد جرنا قروناً إلى الوراء، وليس مجرد سنوات.
اتقوا الله في شعوبنا الخليجية، وفي أنفسكم.
بقلم:عبدالرحمن القحطاني
copy short url   نسخ
08/08/2017
3704