+ A
A -
إن المعاناة جزء من الظروف الإنسانية التي لا يستطيع أحد الهروب منها في حياته، والتي قد تكون مصدر قنوط للبعض، ومصدر الهام وابداع للبعض الآخر، مصدرا للشكوى والكسل بالنسبة للبعض، ومصدر شكر وعمل بالنسبة للبعض الآخر، في الحياة نلتقي كثيرا بالفئة الأولى ولا نتعلم منهم شيئا، ونادرا ما نلتقي بالفئة الثانية في الحياة أو على صفحات الورق فنتعلم منهم الكثير، من هؤلاء الرسام الفرنسي «اوجست رينوار» الذي كان يمقت الشكوى والشكائيين ويصر على ان ما في القلب يجب أن يظل في القلب ولا شأن للغير بما يدور في القلب!
عانى «رينوار» من شظف العيش والفقر والجوع ومع ذلك، كان يتندر بمعاناته ويرويها لبث الامل في نفوس من يستسلمون بسرعة. وروى من ضمن ما روى قصة حدثت معه وهو يضحك بمرح: لم يقدم احد على شراء أعمالي. وكان الفقر يحاصرني. وذات مرة طلبت مني إدارة أحد المطاعم ان أرسم لها لوحة مهرج كبيرة لتعلقها في قاعة المطعم. وبعد ان أنجزتها ذهبت لتسليمها وقبض الثمن ممنيا نفسي بعشاء طيب بعد عدة أيام من التقشف الاجباري. وعندما وصلت وجدت أن المطعم قد اغلق أبوابه وأشهر إفلاسه. فعدت من حيث أتيت بلوحتي. ومع ذلك أرفض كل انواع التعاسة التي في هذه الحياة. أنا الفنان الفقير الذي لا أملك في غرفتي شيئا على الاطلاق. ارفض الفقر. وأريد أن يكون العالم في ثراء لوحاتي. في بهائها. في ألوانها. في نعومتها. فليستمتع العالم بملمس البشرة الإنسانية. فليذق وليرشف الجمال. وليسقط الفقر والذل. ليفرح الإنسان. هذه فلسفتي. عشت فقيرا. ابيت عند اصدقائي من الفنانين. واجلب كسرة خبز جاف من صديقي مونيه لعشائي. لقد عرفت الفقر، وإنني أتمرد عليه. لا باسمي فحسب. بل باسم الناس جميعا. ولتكن لوحاتي للناس جميعا. الامل.. الحلم.. التنهيدة.. الابتسامة... الشوق.. وأيضا فرحة الحياة. حتى الصبار يورق زهورا. لن ارسم في لوحاتي فقرا ولا جوعا. ولا مرضا. لانني اعرف الفقر والجوع. واحس بالاوجاع في مفاصلي وعظامي ايضا. وفي رأيي يجب ان تكون الصورة سارة ومبهجة وجميلة فهناك العديد من الصعوبات في حياتنا التي لا تستحق أن تصور، وأنني أفضل لوحة رخيصة من ثلاثة ألوان مبهجة على كيلو مترات من الرسم الضخم والممل»!
رينوار الذي لم يكن يملك أجرة الطبيب الذي قام بتوليد ابنه البكر ودفع له بدلا من النقود لوحة أخذها الطبيب على مضض. كان سعيدا بفنه وأصدقائه. وحين جاء النجاح جلب معه الغيرة. بات أقرب اصدقائه يسخرون من لوحاته ويتشاجرون معه. وحتى لا يفقد ثقته بنفسه اجبرته زوجته على الرحيل إلى الريف والتفرغ لفنه.. وظل هو مؤمنا بنقاء البشر وان الخير باق والشر فعل طارئ. رسالته للفنان أي فنان تشي بإيمانه العميق وقناعته الشديدة: «ايها الفنان يجب ان تؤمن بالله من خلال بدائع صنعه. عندما ترى الكمال لا يسعك الا تسبح بعظمة الخالق»!
وعندما اصيب بالشلل واصبح حبيسا لكرسي متحرك يغالب آلامه لم يتخل عن ابتسامته. بل كان يطلب ان يربطوا الفرشاة في راحة يده ليرسم. وكان يقول لمن يشفق عليه: انني إنسان محظوظ اذ أجبر على البقاء في مكان واحد. الآن استطيع أن أتفرغ للرسم.

بقلم : وداد الكواري
copy short url   نسخ
27/07/2017
1628