+ A
A -
ليس الأمر أنني أتصيد أخطاء الآخـرين، فما هـذا والـلـه من أربي، ولا يمتعني، وأتمنى صادقـاً أن أقـرأ صحيـفة واحدة دون أن أجد فيها خطاً يصفع العيـن بشـدة، وقـد أتجاوز عن الأخطاء المستـترة، فلقـد أفسـد علي هـذا متعة القـراءة، ولماذا القـراءة إن كنـت لا تستمتع بما تقرأ؟
كررنا كثيراً أن من شروط الكتابة أن تتوخى الدقة فيما تنقل. نقلت كاتبة مشهورة أن علي بن الجهم نظم قصيدة مدح وقالت: «قيل المتوكل وقيل الرشيد» ما معنى هذا الهراء؟ هل نظم القصيدة في مدح هذا أم ذاك؟ ومن المعروف أن ابن الجهم مدح المتوكل، وهما بيتان مفردان وليسا قصيدة، وقد أخطأت الكاتبة في نقل البيتين، فقد قال ابن الجهم:
أنت كالكلب في حفاظك للود، وقالت الكاتبة: في حفظك، وهذا يكسر الوزن، وقالت: من كبار الدلاء، وهذا يكسر الوزن أيضاً، وهي: من كبار الدلا. أما الطامة الكبرى فأنها قالت إن ابن الجهم بعد أن تنعم عاد فقال: يا من حوى ورد الرياض بخده، وهذا خطأ شنيع، فقد عاد الشاعر وأنشد قصيدته البديعة:
عيون المها بين الرصافة والجسر جلبن الهوى من حيث أدري ولا أدري
أما «يا من حوى» فموشح يرجح أنه لابن اللبانة الداني الأندلسي.
دعـونا كثيراً إلى الابتعاد عن التقعـر وعدم اللجوء إلى الكلمات الخارجة من بطـون المعاجم القديمة، والقاعـدة ما قاله عـلماء اللغة قديماً «التـقعر بين العامة كالـلحن بين الخاصة» اللحن الخطأ في النحو والصرف وقراء الصحف من العامة. وجدت كاتباً في «إيـلاف» يدافـع عـن الماركسـية ويذمّ الماركسـيـين، وأقـتـبس منه جـملة طويلـة «الماركسية ليست عـقـيدة، ومـن يحولهـا إلى عـقيدة – بله إلى عـقيدة جامـدة – فإنه يخرج من دائـرة الماركسـية»، ونتجاوز خطأه في الربط بكلمة «فـإنه» فلا حاجة لها بل كان يجب أن يورد جواب الشـرط «يخرج» مباشـرة، ونأتي إلى كلمة «بله» التي نبشها من بطون المعاجم ولم أقرأها عند غيره من الكتاب حديثاً، وأود أن أساله: كم من القراء يستطيعون قراءتها بالشكل الصحيح؟
لنقرأ الكلمة قراءة صحيحة يجب ضبطها بالحركات «بَـلـْهَ» قال صلى الله عليه وسلم «أعدَدتُ لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، بَلـْهَ ما اطلعتم عليه» قالوا: بله من أسماء الأفعال بمعنى دعْ أو اتركْ، ويكون معنى قول الرسول الأعظم: دعوا أو اتركوا ما تعرفون. والأغلب أنها مبنية على الفتح أي «بَلـْهَ» دائماً، واختلفوا في إعراب ما يأتي بعدها.
من هذا نستنتج أن إيراد كلمة «بله» في الجملة التي اقتبستها من الكاتب الماركسي كان خطأ، وقد حشرها حشراً حيث لا لزوم لها إلا أن يظهر لنا أنه ضليع باللغة العربية، وكان يمكن له أن يقول: بل إلى عقيدة جامدة، دون هذا التقعر.
قلت كثيراً إن العتب على الكبار أكبر من العتب على المبتدئين، لأن هؤلاء الكبار قدوة، وهنا ينطبق عليهم الحديث الشريف «من استن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من اتبعها إلى يوم القيامة، لا ينقص هذا من أوزارهم شيئاً» وكتبت هذا إلى بعضهم ممن توفرت عناوينهم الإلكترونية (إيميلاتهم). وأخطاؤهم متعددة منها: قلب الجملة الفعلية إلى جملة اسمية، ومن النادر أن أقرأ مقالة سياسية تراعي هذا. ومنها أنهم ينقلون أقوالاً أو شعراً نقلاً خاطئاً، طبعاً دون أن ننسى أنهم لا يتعبون أنفسهم بذكر اسم الشاعر، بل إن أحدهم نقل آية كريمة فأخطأ.
أحد أشهر الكتاب الصحفيين تحدث عن نكبة بيروت عام 1912 عندما ضربا لأسطول الإيطالي بيروت انتقاماً من الأتراك، وقال إن حافظ إبراهيم صاغ تمثيلية شعرية تقول فيها زوجة المقاتل:
ولو وقاك وقيٌّ / بمهجة لوقيت
إن عشتَ أو متَّ إني / كما نَويت بنيت
الخطأ هنا أن اسم الفاعل من وقى واقٍ (واقي) ولم ترد وقيّ، والأصل في القصيدة وفيٌّ. والخطأ في البيت الثاني أن الأصل: كما نويتَ نويتُ، وأي قارئ شعر يتوقع هذا، ولا معنى لفعل بنيت، إنما هو خطأ الكاتب الذي نقل. ونقل عن شوقي أنه قال في قصيدته:
بيروت يا راح النزيل وانْسِه / يمضي الزمان عليّ لا أسلوك
والكسرة تحت السين من عنده كما نشرها في مقاله، ويدرك أي طالب في الثانوية أن الكلمة يجب أن تكون وأنسَه (والهمزة مضمومة) والإعراب ببساطة أنّ «راحَ» منادى مضاف، وهي بالتالي منصوبة بالفتحة، وأن «أنسَه» معطوفة على راح، هل هي معجزة لغوية تحتاج إلى الأصمعي والمعري وسيبويه؟
سخر الكتاب والصحفيون من الأمين العام السابق للأمم المتحدة بان كي مون لأنه كثيراً ما قال إنه يشعر بالقلق لما يحدث. والأمين العام للأمم المتحدة لا حول له ولا قوة، أما الفعل فلمجلس الأمن الدولي، وإن شئتم الدقة للخمسة الكبار الذين يملكون حق «الفيتو»، وعندما تجرأ بطرس غالي على رفض أوامر الولايات المتحدة فقد التجديد له. إحدى صحفنا المحلية رأت أن تطلق وصفاً على بان كي مون فقالت إنه «قلوق» ولا ندري من أين جاء الصحفي الهمام بهذه الصيغة. ففي جميع المعاجم: قلِق قلقاً فهو قلِقٌ ومقلاق، ولا نستخدم الثانية لذا تبدو غريبة، والطريف في أمر القلق أننا نقول: قلِق الشيء قلـَقاً: وهو ألا يستقر في مكان واحد، فالقلق الاضطراب وليس الهم النفسي.
ملاحظة سريعة: كم هو مؤلم أن تقرأ لكاتب من أشهر الكتاب الصحفيين وفاز قبل بضع سنوات بجائزة نادي دبي للصحافة قوله «هل لأن ما قاله الشاعر العربي لبيد عن ظلم ذوي القربى، باعتباره الأشد مضاضة ومرارة هو السبب؟» وهو يشير إلى الشاعر المخضرم لبيد بن ربيعة، ولكن الكاتب المحترم لم يبحث – إذا كان لا يعرف – ليتأكد أن قائل هذا البيت الذي صار مثلاً أصغر أصحاب المعلقات عمراً وقد قتل وهو ابن خمس وعشرين سنة طرَفة بن العبد البكري:
وَظلمُ ذوي القُربى أشدُّ مضاضةً على المرءِ من وقـْعِ الحُسامِ المُهنَّدِ
وروي البيت: على النفس، بدلاً من على المرء.
قلت كثيراً إنني أستغرب من بعض الكتاب أن يخترعوا كلمات لا معنى لها، أو أن ينبشوا في بطون المعاجم ليأتوا بكلمات تنفر منها العين والأذن، كتب أحدهم ويزين اسمه بلقب دكتور «من آكدِ الأمور، وأَبْدَهِ الحقائق الموضوعية» وواضح أن الكلمة الأولى اسم تفضيل من فعل «أكـّد» وقالت العرب: أكـّده تأكيداً، أي وكـَّده، ورأوا أن وكده أفصح من أكده، والعهد الأكيد: الوثيق المحكم. أما «أبده» فهي من البديهة والبداهة، وهما أول كل شيء وما يفجأ منه، وبدهه الأمر: فاجأه وباغته. ألم يكن باستطاعة هذا الكاتب النحرير أن يصوغ الجملة لتعطينا المعنى الذي رمى إليه دون هذه الركاكة؟
وقال دكتور آخر: دور أفعل في الحرب للوكلاء المحليين، يا للركاكة!

بقلم : نزار عابدين
copy short url   نسخ
27/07/2017
2122