+ A
A -
عندما نتعمق في التاريخ نجد قصصا تكشف لنا عن تناقضاته والتواءاته.. لم يعرف الغرب الأوروبي ذلك الرخاء الذي عرفه منذ خمسينيات القرن العشرين وليومنا هذا إلا بعد حرب عالمية أولى ثم ثانية قتلت عشرات الملايين من الناس. فلولا تلك الحروب لما تعلمت أوروبا توسط خلافاتها وبناء سلامها.. وبنفس المعنى التاريخي يمكن الاستنتاج بأن الثورة الفرنسية ما كانت ستقع لولا قيام النظام الفرنسي الملكي برفض الإصلاح بمكابرة وعناد وذلك بسبب ضغط النبلاء المفرغ من فهم التاريخ.. ولولا اليعاقبة المتطرفون (نتاج الثورة الفرنسية) ذوو الروح الفتاكة التي تشبه داعش لما انتشرت الديمقراطية في أوروبا.
فالخوف من عودة يعاقبة الثورة الفرنسية وإجرامهم أدى لنشوء الديمقراطية الفرنسية بعد نابليون.. وبنفس المستوى لولا ثورة 1905 الروسية الفاشلة ضد نظام القيصر لما نجحت ثورة البلاشفة في 1917، ولولا قيام شاه إيران بخنق التعبيرات الدينية والسياسية ثم قيامه بنفي الإمام الخميني وإقران ذلك بنظام بوليسي تعسفي لما قامت ثورة الخميني عام 1979.. التاريخ مليء بالتناقضات وكل نظام سياسي في التاريخ ساهم بدون قصد في فتح الطريق المؤدي لفنائه أو لتجديده.
ويمكن القول إنه لو قام النظام العربي في بدايات 2000 حتى 2006 بتطبيق الإصلاحات التي وعد بها الجمهور العربي في ظل الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك ورئيس النظام السوري يشار الأسد وغيرهما لما وقعت الثورات في 2011.. بل لو فتحت الأبواب أمام الحياة السياسية وجرى التمهيد لبعض «اللبرلة» والانتخابات والخيارات الحقيقية ذات العمق الديمقراطي لما جاءت ثورات 2011.. ولو قام النظام العربي بدمج قوى الإسلام السياسي المعتدلة والسلمية ومكن بنفس الوقت القوى المنافسة لها ضمن معادلة واضحة تسمح بالمشاركة السياسية لما وقع التطرف ولما برزت مدارس العنف الإسلامي.
ويمكن الاستنتاج بأنه لولا الثورة المضادة التي جاءت بعد ثورات 2011 العربية والتي بطشت بالمتظاهرين في كل من سوريا والقاهرة وغيرهما من الدول لما وصل النظام العربي للمأزق الذي يصل إليه الآن.. فمن خلال الثورة المضادة انقلب الجيش على الحكم المدني بصورة شاملة، وتمت عملية تصفية قوى التغير وسحقها في مصر وفي الإقليم.. لقد أصبحت عقيدة النظام العربي الاجتثاث وتوزيع تهم الإرهاب بحق قوى سياسية، وهذا جعل عدم الصدق والتضليل صفة من صفات النظام العربي بعد 2011. ففي سوريا تحت شعار وجود متطرفين انقض النظام منذ اليوم الأول للثورة على المجتمع وهجر السكان وقتل مئات الألوف، وما وقع في سوريا بصورة مبالغ بها وقع في مجتمعات عربية أخرى بحجة المعارضة والتظاهر.. وأصبحت التهم التي توجهها النظم العربية مرصودة مسبقاً كالانضمام لجماعة محضورة وتهمة تنظيم تظاهرة والكتابة في وسائل التواصل الاجتماعي.. ما فعله النظام العربي قضى على حق التعبير والعمل السياسي السلمي وحق التظاهر والكتابة بين جيل كامل من العرب.. ويصاحب هذا المشهد أزمة اقتصادية خانقة وحالة تهميش مكثفة وفقر مضاعف.
لن يكون العقد القادم أحسن حالاً من العقد الراهن، وذلك لأن الإجراءات العربية القاسية بحق الشعوب والنشطاء والنقاد والمعارضين ستؤدي لمزيد من عدم الاستقرار الممهد لثورات على شاكلة 2011.. بإمكان النظام العربي أن يخفف ويؤجل من هذا الاحتمال، لكن لم يعد بالإمكان منع هذا المصير الذي يتبلور في ثنايا الوضع العربي.. لقد ابتعد النظام العربي عن آفاق الإصلاح السلمي.. وهذا يؤدي عند كل منعطف جديد لتوجه قطاع ليس بسيطاً من شبان وشابات العرب نحو الأفكار الثورية وسيلة وحيدة لتحقيق الحقوق.. هناك قوى تتطور في باطن المجتمع العربي تؤمن بالقطيعة مع الدولة العميقة وترى بأن سبب نجاح الثورة المضادة مرتبط بعدم التخلص بعد ثورات 2011 من النظام القديم تماماً، كما فعلت الثورات الفرنسية والروسية بل والإيرانية.. القادم في المنطقة العربية بسبب غلق المساحات أكبر من أن يتم احتواؤه.. هذه فرضية تعززها تطورات عام 2017 في منطقة الخليج خاصة تلك المرتبطة بحصار قطر، وأيضاً نشوء تحالفات جديدة في ظل استمرار الحروب الطاحنة في الإقليم بما فيها حرب اليمن.

بقلم : د. شفيق ناظم الغبرا
copy short url   نسخ
23/07/2017
3319