+ A
A -
انتعشت الآمال قبل ست سنوات في انتقال المجتمعات العربية من حالة المجتمع المغلق إلى نمط المجتمع المفتوح. والمجتمع المغلق هو الذي يعيش أفراده داخل أسوار تحرمهم من التواصل والتعبير وتداول المعلومات والمشاركة والتنظيم وكافة الحريات. أما المجتمع المفتوح فتختفي فيه تلك العوائق. وبعد أن انتعش الأمل عاد لينكسر لأن السلطوية العربية عرفت، كالعادة، كيف تعود وكيف ترجع من جديد بمجتمعاتها إلى عصر المجتمع المغلق.
والحق أن السلطوية العربية لم تفزع من كافة الرؤى المتفائلة التي بشرت بأن التحول إلى المجتمع المفتوح حتمية تاريخية لا يمكن إيقافها خاصةً بعد أن خرجت الشعوب في ثورات قيل إنها ستغير موازين التاريخ. فالسلطوية العربية هادئة ومدربة. تمتلك ميراثاً طويلاً من خبرات تراكمت عبر قرون. وبجانب خبراتها الطويلة، استفادت السلطوية العربية في العودة بشعوبها إلى نمط المجتمع المغلق من عاملين آخرين. الأول ما حدث بسبب العولمة. فبعد أن كانت تفاعلاتها تبشر بفتح الحدود وتشبيك الأفراد وكسر القيود، بدأ كثير من الناس يطالبون بوقف الهجرات وإغلاق الحدود والتصويت لقوى يمينية محافظة تتكلم عن فضائل المجتمع المغلق أكثر مما تهتم بالترويج للمجتمع المفتوح. والعامل الثاني هشاشة المجتمعات العربية التي سهلت للسلطويات العربية فرض نمط المجتمع المغلق مرةً أخرى. فتلك المجتمعات عجزت مراراً عن استثمار الفرص القليلة التي واتتها للتخلص من المجتمع المغلق وبناء مجتمع جديد مفتوح. بل هي نفسها مجتمعات مغلقة اجتماعياً وثقافياً، تميل غريزياً إلى تقديس فكرة المجتمع المغلق وهو ما مثّل عقبة أمام من حلموا ببناء مجتمع مفتوح سياسياً. والأهم من هذا وذاك أن المجتمعات العربية مثل الحكومات العربية، كلاهما يسيء الفرصة التي تسنح له. فإذا كانت الحكومات تسيء استعمال صلاحياتها في فرض النظام لينشأ مجتمع مغلق، فإن المجتمعات كثيراً ما تسيء استعمال الحرية لتنقلب إلى فوضى تقضي على الأمل في بناء المجتمع المفتوح. وذلك تحديداً ما وقع عقب ثورات الربيع العربي التي يستعمل ما صاحبها من حريات ثم ما أعقبها من فوضى في تبرير عودة الدولة الآمرة المؤسسة من جديد للمجتمع المغلق.
وبرغم ذلك كله فإن الأمر لا يبدو أنه يسير حتماً في اتجاه واحد نحو العودة الكاملة إلى المجتمع المغلق. فهناك شواهد مضادة تؤكد أن المجتمع المفتوح يظل حلماً كبيراً وحلاً لكل المشكلات العالقة وأن القوى الكثيرة المعطلة والمعبأة بإمكانها لو تحركت أن تفرضه وتجعله واقعاً. فهناك مظالم متزايدة عادت لتتراكم ينتظر أن تدفع الناس من جديد للخروج للمطالبة بتأسيس المجتمع المفتوح. كذلك فقد كشفت الأزمة الخليجية الأخيرة عن عجز واضح في فرض نموذج المجتمع المغلق برياً وبحرياً وجوياً وإعلامياً على قطر ما يشير إلى أن الطريق ليس معبداً أمام هذا النموذج ليشيع من جديد في كل الفضاء العربي.
وما بين شواهد تنم عن العودة إلى المجتمع المغلق وأخرى تحفظ الأمل في الانتقال إلى المجتمع المفتوح تبقى علاقة الدولة بالمجتمع في منطقتنا باستمرار ملتبسة. فهناك من يؤمن بأن الأمن لا يتحقق إلا بالاستبعاد وبالتالي فالحل هو المجتمع المغلق. وهناك على النقيض من يرى أن الأمن يتحقق فقط بالمشاركة ما يدعو إلى تبنٍ كامل لنموذج المجتمع المفتوح. والمشكلة في منطقتنا أن الدولة لا تستطيع فرض نموذج المجتمع المغلق بالكامل، والمجتمع لا يقدر على كسب معركة بناء المجتمع المفتوح بالكامل. فلا المجتمع المغلق الذي تسعى له الدولة ولا المجتمع المفتوح الذي يتمناه الناس قادراً أي منهما على إزاحة الآخر. كما أن التعايش بين الاثنين أو تطوير بديل ثالث يحافظ على الأمن والحرية معاً لا يزالان بعيدي المنال.
والأرجح لهذا السبب أن تبقى منطقتنا بلا جواب على واحد من أهم أسئلة المستقبل: ما هو شكل المجتمع الذي نريده في القرن الحادي والعشرين؟ هل هو مجتمع مفتوح تكون الدولة فيه حارسة أم مجتمع مغلق تصبح الدولة فيه حابسة؟ ولو كانت الإجابة بالتمني فستتمثل بلا تردد في الانتقال الكامل إلى عصر المجتمع المفتوح الذي يأخذ من الأساليب الأمنية ما يحمي فقط الحريات ولا يقمعها. لكن الواقع شديد التعقيد. فالدولة العربية اعتادت على السيطرة الكاملة على المجتمع مع أنها لا تستطيع، بينما المجتمع يحلم بالخلاص من قهر الدولة ولا يقدر. ولهذا سيستمر السؤال عن شكل المجتمع القادم بلا إجابة. ستقترب الشعوب أحياناً من حلم المجتمع المفتوح ثم تضيعه وستفرض الدولة نمط المجتمع المغلق لكنها ستقبل بمنافذ يتحايل من خلالها الناس على كل ما يواجهونه من قيود. إنها منطقة معلقة في كل شيء. في كل شيء.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
17/07/2017
3217