+ A
A -
استمر يبحث حتى آخر رمق. لم يمنعه مرض عضال من تجميع وإعادة ترتيب ما كتب من أبحاث ونصوص فلسفية وفكرية، وما ابتدع من مفاهيم ومصطلحات فلسفية طيلة أكثر من أربعة عقود. الأسبوع الماضي رحل موسى وهبة ألمع «المتفلسفين» العرب، غير أنه قبل رحيله أعطى الفلسفة الكثير. هي بنظره الفلسفة بالعربية وليس الفلسفة العربية، كما كان يشدد دوما في مقاربته ويصر عليها.
ليس هناك فلسفة عربية أو فلسفة يونانية أو فرنسية أو ألمانية.. وإنما فلسفة عامة يتم «التفلسف» فيها وبها، وبالتالي التفلسف بالعربية. أي إنتاج نص فلسفي (باللغة العربية) يساهم في تطوير مفاهيم جديدة ويضيف إلى الفكر الفلسفي.
اقتحم وهبة عالم الفلسفة باكرا، وهو الآتي من قرية نائية في أقاصي شمال لبنان. أنهى علومه الثانوية ثم الجامعية في بيروت بعد أن حاز إجازة في الآداب، والتحق بجامعة السوربون في باريس ليعود عام 1973 من أوائل حملة الدكتوراة في الفلسفة. تفرغ للتدريس في الجامعة اللبنانية الرسمية على مدى أكثر من ثلاثة عقود مساهما أساسيا في تأسيس فرع الفلسفة في الكلية.
شكل تعمقه بالفيلسوف الألماني إيمانويل كانط منعطفا هاما في منهجه الفكري والأكاديمي، لدرجة أنه طبع معظم ما كتب وما أطلق من أفكار وما ابتدع من مقاربات. وربما هو من دفعه إلى الابتعاد عن فكر كارل ماركس، وعن الحزب الشيوعي اللبناني الذي ناضل في صفوفه لعقد من الزمن (1968 - 1978)، وربما أيضا بسبب الحرب التي اندلعت في خلال تلك الفترة (1975) وجعلته يكره العنف.
شغف موسى وهبة بكانط دفعه إلى الانكباب على ترجمة أهم مؤلف له «نقد العقل المحض». وقد تفرد عربيا بهذه الترجمة التي استنفدت اثنتي عشرة سنة من عمره، وباتت مرجعا لذوي الاختصاص والمهتمين. وقد ابتدع في هذه الترجمة مفاهيم ومصطلحات عربية مرادفة وموازية، من نوع «أفهوم» على سبيل المثال بدل مفهوم. ويعلل ذلك بالقول إن «الأفهوم» هو فعل تفكير وليس نتيجة تفكير، وأن التفكير يبلور فكرته من الواقع وليس فقط من المتخيل أو المتصور. وقد علق أحد الباحثين قائلا إن كانط لو أراد أن يكتب «نقد العقل المحض» بالعربية لما تمكن من صياغة نص فلسفي أجمل من الذي سبكه وهبة...
لم يكن الفيلسوف اللبناني غزيرا في الكتابة والإنتاج الفكري، رغم أنه من أكثر المتعمقين والمجددين بين الفلاسفة العرب. وكان همه إغناء الفلسفة والمكتبة العربية، فقام بترجمة نصوص مرجعية لكانط وهيوم ونيتشه وهوسّرل وهيديغر، ومجموعة أبحاث ومقالات نشرت في دوريات لبنانية وعربية، وبالأخص في مجلة «الفكر العربي». أسس مجلة «فلسفة» وجمعية «اللقاء الفلسفي» العربي التي ترأسها لعدة سنوات.
كان همه القول الفلسفي بالعربية. ففي محاضرة ألقاها في تونس عام 2006، بعنوان «هيديغر بالعربيّة»، قال: «مستقبل القول الفلسفيّ بالعربيّة، إمكان قول الفلسفة بالعربيّة منوط باستيضاح الحاجة العربيّة إلى الفلسفة. هل هي حاجة لاستخدام الفلسفة أم لخدمة التفلسف (أي راحة العقل كما تقول القدماء)، وبتأمين المناخ اللغويّ المناسب الذي ليس سوى إحضار التراث الفلسفيّ، وما أسمّيه جسد الفلسفة الحيّ، إلى العربيّة».
يقول في حوار مع الكاتب محمد حجيري: «العرب اليوم لا يتفلسفون، بمعنى أن النصوص المسمّاة فلسفيّة هي ليست فلسفيّة، بل هي تعليميّة أو على هامش الفلسفة، أي أن المفكّرين العرب لم ينتجوا نصوصاً فلسفيّة باللغة العربية، بمعنى النصوص التي تؤسس لشيء جديد...».
تقاعد من التعليم الجامعي ولكنه لم يتقاعد. قضى وهبة معظم وقته في العقد الأخير من عمره في المقاهي، بين طلابه قبل الأصدقاء والمثقفين الذين كانوا يتحلقون حوله يصغون ويناقشون. يحاورهم لساعات بلا كلل، هادئا ممازحا حتى استحق لقب «الفيلسوف الشعبي».
هاجس وهبة كان البحث الدائم عن الأفكار في العقل، والإمعان بها تمحيصا، ثم إعادة تفكيكها مجددا!

بقلم : سعد كيوان
copy short url   نسخ
11/07/2017
2958