+ A
A -
إذا كانت التحركات الخارجية، لسحب خيوط إدارة أمور أصحاب الشأن في عالمنا العربي، من بين أيديهم، ووضعها في أيدى آخرين لهم مصالحهم التي تخصهم، أمراً تظهر خططه للعيان، وأهدافه معلنة صراحة، فما الذي ينتظره أصحاب الشأن من أجل حماية أنفسهم ووجودهم؟!
لا خلاف على أن عالمنا العربي يتعرض لتحديات لم يسبق له أن واجهها من قبل على هذا النحو، ولعل أخطرها أطماعاً ليست خفية، لهدم الدولة الوطنية، وإحالتها إلى أنقاض، ثم إعادة بنائها بأيدٍ أجنبية، وحسب ما يتراءى للقائمين على هذه الخطط، ويتفق مع مصالحهم.
إن نظام الدولة الوطنية بشكلها المعاصر، كان قد استقر، عند توقيع معاهدة السلام في وستفاليا عام 1648، التي أنهت حرب الثلاثين عاماً في أوروبا، وحين رفض الموقعون عليها الاعتراف بالسلطة السياسية البابوية الفوقية عليهم، وهو الوضع الذي كان قائماً من قبل، من جانب الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وأنشؤوا نظاماً يقوم على كيانات جغرافية وسياسية محددة، لا تعترف بوجود أي سلطة فوق حكوماتها، وأن تنظم وتدار العلاقات بين هذه الكيانات الجديدة، وفق القواعد الجديدة للقانون الذي يخول لكل كيان إدارة شؤونه، دون أي تدخل من أي جهة تعلو فوقه. وتشارك هذه الكيانات جميعها، في نفس الحقوق والمسؤوليات القانونية، والتكامل الوطني، والسلامة الإقليمية لأراضى الدولة، وحريتها في مواجهة أي تدخل أجنبي في شؤونها، واستند ذلك كله إلى مفهوم سيادة الدولة على أراضيها.
واستمر هذا الوضع كأساس للهوية الوطنية للدولة، وللعلاقات الدولية، واحترامها، لما يقرب من 170 عاماً، إلى أن بدأت قوى كبرى تفكر في هدم هذا الشكل للنظام العالمي، واقتلاع جذوره، في تحركات متسارعة ومنظمة من نحو عشرين عاماً.
وظهرت في طرح أميركي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1995– وإن لم يقدر له النجاح– بمشروع يسمى التدخل في شؤون الدول الأخرى لأسباب إنسانية، سبقه من أول التسعينيات ترويج لأفكار تبشر بنهاية عصر الدولة الوطنية، التي تضم خليطاً متجانساً من عناصر أو أعراق متعددة، وبمفاهيم تحرض على الانقسام، وانسلاخ هذه الأعراق على الدولة الأم، وهو ما لا يتم إلا بإشعال الصراعات الطائفية التي تصل إلى حد العنف.
وتدريجياً أخذت ملامح هذا التفكير، تظهر علناً على المستويات الرسمية، منها ما تسرب إلى الصحف الأميركية عام 2003، عن اجتماع عقد بوزارة الدفاع في واشنطن، برئاسة ريتشارد بيرل رئيس اللجنة السياسية الاستشارية بالوزارة، واستمع فيه المجتمعون إلى سيناريو ما بعد غزو العراق، والذي قيل فيه صراحة، إن العراق سيكون خطوة تكتيكية، تليها السعودية كخطوة استراتيجية، وبعدها تأتى مصر باعتبارها الجائزة الكبرى.
ولم يختلف ذلك كثيراً عن مضمون المشروع الذي كلف به الخبير الأميركي مايكل لادين من بعد أحداث عام 2001، بوضع خطة تنفذ على مدى عشر سنوات، لإعادة تغيير دول المنطقة تماما من داخلها، وعن طريق الفوضى، ومن خلال الفوضى التي كان هدفها فراغ داخلي يسهل للعناصر المعادية لفكرة الدولة الوطنية، أن تلعب دورها، أمكن فتح الباب أمام منظمات إرهابية، من القاعدة إلى داعش، وكل ما ارتبط بها من جماعات تحمل نفس الفكر، لكى تنشط في هذا الفراغ الإقليمي العربي.
وإن كانت الدول الضالعة في هذه المخططات، لم تحسب حساب كون هذه الجماعات، بلا انتماء وطني، وأن فكرها التدميري والدموي، سوف يرتد بطبعه إلى الذين أطلقوها من البداية. وكانت أخطر مظاهرة نقل الهوس الإرهابي لإراقة الدماء، إلى هذه الدول، فضلاً عن تدفق الهجرات الجماعية إليها، بما تحمله من تهديدات كامنة لها.
ثم تتصل خيوط المؤامرة لإبقاء المنطقة في حالة الفراغ، الذي تستغله القوى الخارجية، في فرض نفسها باعتبارها الجهة المخولة بإدارة هذه الأزمات التي كانت أصلاً من صنع يديها، وإبقاء أصحاب الشأن في موقع المتفرج، الذي ينتظر ما يقرره الآخرون.
المنطق يقول إنه إذا كانت الدولة الوطنية، هي المستهدفة والمهددة، من جانب نفس الذين يضعون أنفسهم في موقع الحكم، الموكل إليه حل أزمات المنطقة من سوريا، والعراق، وليبيا، واليمن، فمتى يفكر أصحاب الشأن في كيفية حماية أنفسهم، وإقامة سياج يدرأ عنهم مكائد الآخرين، ويعيد إليهم إدارة أزماتهم بأنفسهم؟
البداية والتي ليس لها بديل، هي تنظيم جلسات حوار حضاري، لها هدف محدد، وجدول أعمال، وتوقيت زمني، تشارك فيه عقول من هذه الدول، المدركة لما يحاك ويدبر لها، وبناء على اتفاق جماعي أو شبه جماعي، على عمل مشترك يتلاقى حوله المهمومون بدولتهم الوطنية، وميراثهم الحضاري، والتاريخي، وبناء على وعي بالتحديات التي تتربص بهم جميعاً، لا تفرق بين أي منهم والآخر، فكلهم مستهدفون بنفس الدرجة، ولنفس الأهداف.

بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
05/07/2017
4890