+ A
A -
بقدر ما فرحت إندونيسيا بتأسيس الديمقراطية والتعددية السياسية بعيد سقوط نظام الجنرال سوهارتو الديكتاتوري عام 1998، فإنها عانت بدرجة أكبر، وعلى مدى السنوات التالية، من الفوضى والانفلات الأمني في جزرها المترامية الأطراف.. وكان من نتائج هذه الفوضى الأمنية بروز جماعات وتنظيمات دينية متشددة ناشطة في الحياة السياسية تحت مظلة الديمقراطية التي لم تؤمن بها قط وإنما استخدمتها للتمدد وتقنين أنشطتها والهروب من المساءلة.
ولعل الأمر الآخر الذي ساهم كثيراً في صعود هذه الجماعات على الساحة السياسية اهو غياب رموز الاعتدال الديني من أصحاب الثقل السياسي في الشارع مثل رئيس الجمهورية الأسبق وزعيم جمعية نهضة العلماء عبدالرحمن وحيد، واعتزال الشخصية السياسية المعتدلة والمثقفة الأخرى الدكتور أمين ريس، رئيس الجمعية المحمدية.. وكنتيجة لغياب هذه الرموز الإسلامية الكبيرة القادرة على لجم المتطرفين ومنع هيمنتهم على الشارع، معطوفاً على تسرب الأفكار المتشددة إلى المجتمع الأندونيسي من خلال العائدين من الجهاد في أفغانستان أو القتال مع القاعدة أو من خلال الفضاءات الإعلامية المفتوحة شاهدنا كيف سطع نجم أبوبكر باعاشير فجأة من بعد أفول، وكيف تحول إلى رمز يحرض على القتل والتدمير باسم الجهاد قبل أن يـُعتقل ويُحاكم وتصدر ضده أحكاماً بالسجن الطويل.
وبطبيعة الحال لم يُجد سجن باعاشير نفعاً لجهة قطع دابر الإرهاب في إندونيسيا، إذ ظل يوجه أنصاره من داخل المعتقل للقيام بعمليات انتقامية ضد مؤسسات الدولة والشركات والسفارات الأجنبية والكنائس وقوات الأمن والمواقع السياحية، بل قام فوق ذلك بإعلان تأييده لتنظيم داعش الإرهابي ومبايعة زعيمه البغدادي (نفى ذلك للشرطة عند استجوابه من باب الإفلات من عقوبة جديدة تطيل تقييد حريته على الرغم من انتشار رسالة له إلى اتباعه حول الموضوع).. ولعل هذا هو ما شجع الكثيرين من أنصاره للسفر إلى العراق وسوريا للقتال إلى جانب الدواعش ومنهم المدعو «بحر مزياه» الشهير بـ«أبومحمد الإندونيسي» الذي تناقلت وسائل إعلام داعش اسمه نافية خبر مقتله في الغوطة الشرقية.
اليوم لم يعد صداع باعاشير هو الموضوع الرئيسي الذي يقض مضجع جاكرتا.. والسبب هو بروز شخصيات وتنظيمات جديدة تحمل أفكاراً أكثر خطورة على المجتمع الأندونيسي من أفكار باعاشير وتنظيمه (الجماعة الإسلامية).. وهذا ما تجلى مؤخراً في المظاهرات الشارعية التي قادتها جماعات مثل: «منتدى أمة الإسلام»، و«جبهة الدفاع الإسلامية»، و«مجلس المجاهدين» في أواخر العام المنصرم بهدف الضغط على المؤسسة القضائية لإقالة واعتقال ومحاكمة عمدة جاكرتا المسيحي «باسوكي بورناما» بتهمة قيامه بازدراء الدين الإسلامي، بالرغم من أن الأخير انتقد فقط فتوى حول عدم جواز تصويت المسلم لغير المسلم في الانتخابات. في تلك المظاهرات خرج عشرات الآلاف من سكان العاصمة في أشكال وملابس وشعارات وأعلام غريبة عن الدارج والمعتاد، اختصرها أحد المعلقين بالقول: «إنها صورة تعكس واقع اندونيسيا الجديد الماضي بقوة نحو تقويض الاعتدال الذي عرفت به لصالح خليط هجين من أفكار القاعدة وداعش وطالبان، إضافة إلى أيديولوجيات حزب التحرير المطالب بإقامة دولة الخلافة».
من أبرز الشخصيات التي تتصدر المشهد الأندونيسي الجديد شخصية لا تقل حماقة وتطرفاً وخبثاً من باعاشير لجهة تحقيق أجنداته في الوصول إلى الحكم وبالتالي تقويض أسس الدولة المدنية التعددية الحالية، المدعو «محمد غاتوت سابتونو» الشهير باسم «محمد الكاثــّاث» زعيم «منتدى أمة الإسلام»، والذي تمادى كثيراً في أفعاله إلى حد أنه خطب في أنصاره، قائلاً: «إن الشريعة ستصبح هي القانون المطبق في البلاد، وسيتم عزل غير المسلمين من مناصبهم القيادية، وسيتم قطع أيدي اللصوص والسراق في الساحات العامة» وهو ما دفع السلطات الأمنية إلى اعتقاله وتوجيه تهمة التخطيط لانقلاب على الدولة، على الرغم من فوز صديقه «أنيس باسويدان» بمنصب حاكم جاكرتا في أبريل الماضي بفارق نسبي بسيط عن منافسه «بورناما». ومن الأمور الأخرى التي ربما ارتبطت بسرعة توقيف «الكاثــّاث» هو قيامه بدعوة وفود من قادة الروهينجيا البورميين إلى إندونيسيا واستضافتهم في مهرجانات شعبية لتجنيد المقاتلين، وجمع السلاح، وتلقي التبرعات المالية لشراء، مع التركيز على دعوة من يتقن فنون التفجير وزرع القنابل للسفر إلى ميانمار.
بقلم : د. عبدالله المدني
copy short url   نسخ
25/06/2017
2920