+ A
A -
دولة فاشلة. هكذا كتب على دولة جنوب السودان، قبل أن يرفرف علم استقلاها من السودان.
الدولة- أي دولة- لا تأخذ مفهوم الدولة بقطعة قماش، ولا بساط احمر للبروتوكول، ولا بصك عملتها الوطنية، فقط.
الدولة- أي دولة- تأخذ مفهومها من المفاهيم التي اختطتها البشرية، منذ ان أنشأت أول دولة في التاريخ، وثابرت لعصرنة هذه المفاهيم، في كل عصر.
ليس هنالك من دولة ناشئة، يمكن أن تقوم لها قائمة، في ظل المفاهيم التالفة والخاطئة، وأبرزها مفهوم القبيلة، في جانبه السلبي: جانبه الذي يقوم على العصبية، والخصومات، والثأرات، وسفك الدم.
القبلية- في مفهومها الضيق- هو الذي أفشل هذه الدولة الوليدة، وأشعل فيها كل هذه الحروب والفظائع والجرائم الكبرى. ما هو غريب، أن النخبة الحاكمة هي التي أشعلت هذه الحرب الفظيعة. ما هو أغرب أنهم هم رفقاء السلاح والمصير خلال حرب الجنوب والشمال: أطول وأشرس الحروب في القارة الإفريقية.
هكذا حين لا تتجاوز النخب- في أي مكان- مفهوم القبلية، تشتعل النيران، وتتمدد أفقيا، وتأخذ في النهاية شكلا بدائيا، كريها، ونتنا، وفظائعيا، وأكثر إجراما.
الفرار، هو من تعقيدات الحروب، في أي مكان، وزمان.. وها هم الجنوبيون، يفرون من النيران والفظائع، ومن بين أهم الدول التي تشهد موجات متتالية وهائلة، السودان.. الوطن الذي باعوه بثمن تقرير المصير، قبل سنوات!
معظم الذين فروا إلى السودان فروا إلى دارفور، التي تغطت بالنيران والفظائع والجثث، قبل أن تتدخل قطر بمساعيها الإطفائية الحميدة، والجبارة، واستطاعت أن تعيد السلام- إلى حد كبير- باتفاقية سلام دارفور، بين الإخوة الأعداء.
تلك واحدة- أخرى- من حسنات الدوحة، تلك التي تجاوزت حسناتها السودانيين، إلى الفارين من الفظائع، من الدولة التي كانت جزءا أصيلا، من السودان القديم.
القائم بالأعمال الاميركي ستيفن كوتسيس، هو الآن بجولة في دارفور.. وهنا يبرز السؤال: هل كان من الممكن ان يتجول مستر كوتسيس هكذا، بمنتهى الأمان، لو كانت دارفور لا تزال تتغطى بما كانت تتغطى به من رصاص يصيب، ورصاص حين يخطئ، يدوش ويثير الرعب والفرار؟
كان بالأمس في مدينة الضعين، حيث مخيم النمر، الذي يشهد يوميا تدفقا هائلا من الجنوبيين: رجالا ونساء وأطفالا.. وأي من هؤلاء، يحكي قصته المؤلمة، ومأساته، مع حروب القبائل.. وما أبشعها من حروب، طالت حتى غرس السكاكين الطوال في عيون البقر!
شادية إبراهيم، التي دخلت المعسكر بائسة ومرعوبة مع زوجها وأطفالها السبعة، تنهدت، ولملمت أنفاسها المتقطعة لتقول قريبا جدا من أذن مستر كوتسيس: شكرا للرب. هاهنا نجد الأمان. هذا هو المكان الذي نعرفه ويعرفنا. كنا نعيش بين الرصاص والسكاكين في خوف.. الآن لا.
قالت ما قالت وهي تنظر بعين الأم، إلى أطفالها وهم يلعبون.
شادية قالت- بصورة أخرى- قريبا جدا من أذن الأميركى الزائر: شكرا أيضا لقطر.
كتب كريستوفر شيئا في دفتر يومياته في دارفور، وصدى حديث شادية كان لا يزال في أذنه.. وكان لا يزال في عينيه صورة أطفالها يلعبون، بمنتهى الأمان، والمعسكر كله يحتفل بيوم اللاجئين، في واحدة من دول الإحسان، وتطبيب جراحات الرعب والفرار.
لم أكن إلى جوار القائم بالأعمال الأميركي، لأتلصص بعيني إلى ما كتب، لكن ما كتبه يشير حتما إلى أن دارفور، لم يعد أهليها وحدهم ينعمون بالسلام. دارفور الآن تعطي الأمان والسلام حتى للفارين من فظائع الجنوب.
ما هو مهم أيضا القول إن مهمة القائم بالأعمال الأميركي، وهو يقطع مسافات شاسعة في دارفور، هي تقييم الوضع الأمني في ذلك الإقليم، ورفع هذا التقييم للرئيس ترامب، ليقرر ما إذا كانت العقوبات على السودان، سترفع كليا أم لا.
ما هو أهم القول، إن قطر باتفاقية سلام دارفور، كانت أكبر المساهمين- على الإطلاق- في رفع العقوبات الأميركية عن السودان.
هذا ما قالت به شادية إبراهيم- ضمنيا- إذ هي تتحدث عن الأمان.. شادية التي تفهم السياسة، في كلمة واحدة: السلام!
بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
22/06/2017
1755