+ A
A -
تكاثرت المشكلات والمناوشات بين النظم السياسية العربية على مدى عقود إلى أن تحول النظام السياسي العربي بأكمله إلى مشكلة. فمنذ مارس 1945، عندما تأسست الجامعة العربية، وإلى اليوم، والنظام الإقليمي العربي ينتقل من سيئ إلى أسوأ. لا يتخلص من أزمة إلا ليدخل في أزمة أكبر منها ولا ينتهي من خلاف إلا ليثور خلافاً أشد منه، ولم تعد الخلافات السياسية العربية مستغربة.
فهي فيما يبدو جزءًا من السيكولوجية العربية التاريخية كما وصفها بن خلدون حيث أن العرب على حد ما ذهب إليه «متنافسون بطبعهم في الرئاسة قل أن يسلم أحد منهم الأمر لغيره».
وقد تنافس العرب على الرئاسة والسياسة كثيراً ففسدت بسبب خلافاتهم أمور كثيرة من بينها دفع الشعوب العربية إلى ضغائن لم تكن تسعى إليها. فأكثر النظم السياسية العربية ما أن تتوتر علاقاتها إلا ويتوتر كل شيء معها بما في ذلك مشاعر الألفة والود بين الشعوب، فما أن تقع مشكلة سياسية بين نظامين عربيين إلا ويتردد صداها بين العوام على صورة اشتباك وتراشق بين أفراد من هذا المجتمع ضد أفراد من المجتمع الآخر.
والعوام معذورون لأن غالبيتهم تربت على ثقافة القطيع، وتفترض تلك الثقافة أنه متى ما تخاصمت دولتان فلا أقل من أن يشتبك أفراد القطيع المجتمعي على كل جانب بأية طريقة وبكل طريقة مع أفراد القطيع المجتمعي على الجانب الآخر. وسواء جرى ذلك بقصد أو بدون قصد فالنتيجة واحدة حيث تنقل النظم السياسية العربية مشكلاتها إلى النظم الاجتماعية العربية. وبدلاً من أن تعالج الخلافات السياسية بالعمل السياسي يجري نقلها للعوام ليتناولوها هم بالردح الاجتماعي.
وقد اعتادت الدولة العربية برغم ضعفها أمام الخارج، وربما بسبب هذا الضعف، أن تعوض عقد النقص لديها بالاستقواء على المجتمع، اعتادت أن تستضعفه وأن تخضعه. تتوقع منه أن يحب كما تحب السلطة وأن يكره كما تكره، لا تقبل منه إلا أن يتبعها كالأعمى حتى لو خاض صراعات لا ناقة له فيها ولا جمل. والتاريخ السياسي العربي الحديث بأكمله يشير إلى أن معظم الدول العربية أخذت مجتمعاتها رهينة وورطتها في خلافات لم تكن شعوبها تتمناها.
كانت وما تزال الجماهير تتمنى منذ لحظة تأسيس النظام الإقليمي العربي في 1945 أن ينفصل النظامان العربيان السياسي والاجتماعي عن بعضهما. فالعلاقات والصداقات والزيجات ومختلف التفاعلات الاجتماعية العربية ما كان لها أن تختلط بصراعات السياسة. لكن هذا لم يحدث ولا يبدو أنه سيحدث قريباً برغم الحاجة الماسة لذلك. وللأسف الشديد فإن ما حدث داخل معظم البلدان العربية حدث شيء مثله أيضاً بين البلاد العربية عندما اجتاحت السياسة النظام الاجتماعي واقتحمته. في دولة مثل العراق نقلت السياسة إلى المجتمع بغضاء لم يكن يعرفها.
كان العراقيون من مختلف الطوائف يتزوجون ويتجاورون متجاوزين بتراحمهم الاجتماعي قسوة السياسة وأغلالها. لكن كثيراً منهم اليوم تغير بعد أن تمكنت السياسة من تفكيك نسيجهم الاجتماعي فتفشت بينهم كراهية اجتماعية لم يكن لها وجود هي المسؤولة اليوم عن حالات الطلاق وتفكيك الأسر وأعمال الخطف الجارية على الهوية والمذهب والطائفة.
وما جرى داخل الأوطان جرى مثله بين الأوطان. انتقلت الخلافات السياسية العربية إلى المجتمعات العربية وصار لافتاً ومقلقاً ذلك التلاسن بين مواطنين من دول عربية اعتادوا تاريخياً أن يصفوا العلاقة بين مجتمعاتهم بالتاريخية والعميقة والقوية. وللأسف سهلت وسائل التواصل الاجتماعي سقوط المجتمعات العربية فريسة للخلافات السياسية. فما أن يدب خلاف بين النظم إلا وتبدأ وسائل الإعلام في التعبئة والتسخين لتتحرك بسرعة جماعات من العوام لتدلي برأيها في الخلاف عبر منصات مثل تويتر وانستجرام والفيسبوك لتنشب معارك مجتمعية عربية لم تكن لتقع لولا أن النظم السياسية العربية عجزت عن فتح حوار صحي فيما بينها.
ولو أن ثمة مساعدة واجبة للنظام السياسي العربي قد تقيله من بعض عثراته فليست أفضل من ترك المجتمعات العربية على حالها. أن لا تقتحم السياسة مشاعر الشعوب لتأخذها إلى كراهية لم تكن تعرفها أو تسكب في نفوسها مشاعر سوداء لم تكن يوماً تتمناها. إن النظام السياسي العربي في أزمة، ولن تحل النظم العربية خلافاتها السياسية إلا بالسياسة وليس بالتعويل على الخارج أو بالدخول في تحالفات وتحالفات مضادة أو بالمناطحة الإعلامية. سوف يساعدها كثيراً أن تبقي المجتمعات العربية بعيدةً عن أتون الخلافات.
دعوا الشعوب تعيش وتتفاعل مع بعضها بلا تضييق وبدون إكراهها على خصومات لا تحب أن تخوض فيها، وسوف يبقى النظام الاجتماعي العربي برغم ما قد يؤخذ عليه من ملاحظات بوابة الإغاثة للنظام السياسي العربي لأن الشعوب وعلاقاتها أبقى وأصدق من السياسة وتقلباتها.

بقلم : د. إبراهيم عرفات
copy short url   نسخ
05/06/2017
4670