+ A
A -
يمر النظام الدولي بحالة من «السيولة» تدفع به نحو مفترق طرق، ومن الواضح أن هذا النظام وصل الآن إلى درجة من الترهل الكاشف لعجزه عن ضبط حركة التفاعلات الدولية، وبالتالي عن البقاء والاستمرار بصورته الراهنة. لذا يتوقع أن تشهد الساحة الدولية ضغوطا متزايدة للبحث عن نظام دولي بديل اكثر كفاءة وقدرة على التكيف مع التحولات المستمرة في موازين القوى الدولية.
من الجدير بالملاحظة هنا تناقص الفترة الزمنية اللازمة لانتقال النظام الدولي من مرحلة إلى أخرى بمعدلات متسارعة، وذلك تحت ضغط العولمة. ففي الماضي تمكن عدد محدود من الدول الأوروبية، بفضل الكشوف الجغرافية التي انطلقت منها في نهاية القرن الخامس عشر والثورة الصناعية التي شهدتها ابتداء من منتصف القرن الثامن عشر، من الهيمنة على النظام الدولي والتحكم فيه لما يزيد على أربعة قرون.
غير أن التنافس الذي اندلع فيما بينها، سواء للسيطرة على المستعمرات الخارجية أو للهيمنة على القارة الأوروبية من داخلها، تسبب في إشعال حربين عالميتين خرجت منهما أوروبا كلها محطمة.ومهد الطريق لظهور نظام دولي ثنائي القطبية في نهاية الحرب العالمية الثانية، تقوده قوتان من خارج أوروبا هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي. غير أن هذا النظام ثنائي القطبية لم يصمد بدوره للتغيرات المتلاحقة في موازين القوة الدولية، وما لبث أن انهار بعد أقل نصف قرن عقب تصدع الاتحاد السوفياتي، مما جعل الولايات المتحدة تطمح في الهيمنة المنفردة على العالم. غير أن النظام الدولي أحادي القطبية لم يصمد طويلا وما لبث أن انهار بدوره، ولكن بعد أقل من ربع قرن هذه المرة. وسرعان ما تبين انه لم يعد بمقدور أي دولة بمفردها، أو حتى مجموعة من الدول المتحالفة، الهيمنة بشكل دائم، أو حتى لفترات طويلة، على نظام دولي يتعولم بمعدلات متسارعة وتحول بالفعل إلى ما يشبه القرية الكونية الواحدة التي تواجه مصيرا واحدا ولم يعد بمقدور أحد أن ينأى بنفسه بعيدا عنها.
تبدو المرحلة الراهنة من مراحل تطور النظام الدولي عصية على التصنيف، فمن الصعب وصف النظام الدولي في هذه المرحلة بالنظام «أحادي القطبية»، لأن الولايات المتحدة ليست في وضع يسمح لها بقيادته، ناهيك عن الهيمنة المنفردة عليه، على الرغم من أنها ما تزال تحتل مكانة القوة الأعظم فيه، ومن الصعب أيضا وصفه بالنظام «ثنائي القطبية»، على الرغم من تنامي قوة روسيا التي أصبحت في وضع يسمح لها بتحدي الولايات المتحدة في مناطق مختلفة من العالم، ومن الصعب أخيرا وصفه بالنظام المتعدد الأقطاب، رغم ظهور قوى عالمية وإقليمية جديدة يصعب تجاهلها أو السيطرة عليها، لذا يشهد النظام الدولي في مرحلة تطوره الراهنة حالة أقرب ما تكون إلى «اللانظام» أو «الفوضى» أو «السيولة»، ويواجه خلالها تحديات جديدة وخطيرة، أهمها:
1- تنامي نفوذ التيارات القومية والشعبوية، ذات النزعة العنصرية، تناهض العولمة والهجرة وحقوق الإنسان وحماية البيئة، وهو ما بدا جليا من خلال تصويت أغلبية الناخبين البريطانيين للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، وفوز دونالد ترامب في انتخابات الرئاسة الأميركية، ووصول مارين لوبن إلى الجولة الثانية من انتخابات الرئاسة الفرنسية رغم خسارتها لهذه الجولة.
2- تصاعد قوة الجماعات الإرهابية التي أصبحت قادرة على استنزاف وتشتيت طاقة وجهد النظام العالمي كله، خاصة بعد تمكنها من إعلان «دولة الخلافة» على مساحات شاسعة من الأراضي العراقية والسورية، وتوجيه ضربات موجعة إلى قلب العديد من العواصم الغربية.
3- فشل نظام منع الانتشار النووي، خاصة بعد تمكن إسرائيل والهند وباكستان، من تصنيع السلاح النووي، وإصرار قوى دولية أخرى يعتبرها العالم متطرفة، ككوريا الشمالية، على تصنيع السلاح النووي أو، على الأقل، من استيعاب اسرار العلوم والمعارف النووية كاملة،
في غياب آلية للرد الجماعي المنسق على هذه التحديات، ومحاولة القوى الكبرى المتنافسة العثور على مخرج منفرد.
يبدو النظام العالمي مرشحا للدخول إلى مرحلة من الفوضى.
بقلم: د. حسن نافعة
copy short url   نسخ
01/06/2017
3112