+ A
A -
ربما يكون تعبير «الغريزة»، الذي طرح في سياق متابعة منتديات الفكر السياسي، لإدارة ترامب للسياسة الخارجية، هو المصطلح الذي وجدوا أنه يقربهم من تفسير توجهات السياسة الخارجية للرئيس ترامب، بعد انتهاء فترة المائة يوم الأولى له في الحكم.. وما توقعته هذه المنتديات من أن ترامب سينتقل من إدارة السياسة الخارجية بالغريزة، إلى إدارتها حسب ظروف الواقع الدولي، تأثرا بما مر به من تجارب في فترة الشهور الأولى له في البيت الأبيض.
كانت غريزة ترامب مستلهمة من تشخيصه لدور النخبة، وكونها خاضعة لنفوذ قوى داخلية سيطرت لزمن طويل على استراتيجية الدولة، ووسائلها في بسط نفوذها في العالم، وما نتج عن ذلك من ردود فعل سلبية أثرت على مصالح أميركا، وساعدت على انتشار التهديدات لأمنها القومي، والتي كانت النخبة تتصور أن أميركا في أمان منها، طالما أنها بعيدة عن حدودها وأراضيها.
من ثم كان صدامه من أول يوم له في البيت الأبيض مع النخبة، شاملة الصحافة، والإعلام عموما، وخبراء السياسة، وكل هؤلاء ينضوون تحت مظلة تكتل، يوصف حسب المصطلحات السياسية الأميركية بمؤسسة واشنطن WASHINGTON ESTABLISHMENT، وارتبط بهذا الصدام، إعطاؤه الأولوية للسياسات الداخلية، خاصة أن إصلاح النظام السياسي الداخلي، كان على رأس أجندة الذين انتخبوا ترامب، وبالتالي يهمه استمرار تأييدهم له، وفقاً لمفهومه الذي رفعه شعارا لحملته الانتخابية وهو (أميركا أولا).
ولهذا فإن أول ملامح التغيير جاء في تيار ما ظهر له من عدم التوافق بين أفكاره عن السياسة الداخلية، والنظام السياسي الداخلي، وبين بداية تحركات مبدئية له في السياسة الخارجية كشفت له في الحال عن دواعي إعادة تشكيل رؤيته عن العلاقات الدولية.
من ذلك هجومه في البداية على السياسة الخارجية التقليدية، واعتقاده أنه يستطيع تقوية القطاع الصناعي في أميركا، على حساب علاقة أميركا التجارية مع الصين، واتصاله برئيس تايوان، في خروج على المبدأ الذي تتمسك به الصين في علاقتها بواشنطن، بأنه لا توجد سوى صين واحدة.
وجاءت تجربته الأخرى في وقت تصعيد التوتر مع كوريا الشمالية، وشعور ترامب بالخطر من جانبها عقب تهديدها بالوصول بأسلحتها النووية، إلى الأرض الأميركية. وما أشيع عن أن كوريا الشمالية لديها صاروخ عابر للقارات، مداه سبعة آلاف ميل. وعندئذ أدرك ترامب أنه لا يستطيع وحده كبح جماح كوريا الشمالية بدون تعاون الصين معه. ثم أعقب ذلك تراجع اللهجة الأميركية المتشددة، التي ظهرت في التهديد بتوجيه ضربة وقائية إلى كوريا الشمالية. وبعدها أعلن مايك بنس نائب الرئيس الأميركي أن الرئيس ترامب، يرغب في استخدام الوسائل السلمية لإقناع رئيس كوريا الشمالية، بالتخلي – على المدى الطويل – عن أسلحته النووية.
ولعل من البوادر الأولى للتغيير، هي الخطوة التي اتخذها ترامب، بإبعاد كبير مستشاريه للأمن القومي، ستيف بانون، عن منصبه في مجلس الأمن القومي. وكان بانون يتمتع بنفوذ كبير في تشكيل رؤية ترامب السياسية، مركزا على متطلبات السياسات الداخلية أولا، فهو صاحب فكرة منع مواطني سبع دول إسلامية من دخول الولايات المتحدة، وهو الداعية للخطاب السياسي الذي يحمل مسمى الإرهاب الإسلامي وخضوع تفكيره للإسلاموفوبيا، ولديه آراء سلبية تجاه المسلمين المقيمين في الغرب بشكل عام، وغيرها من الأفكار، التي جعلته يوصف في أميركا، بأنه يميني متطرف. وكان ترامب قد اختاره من موقع بعيد تماما عن المؤسسة السياسية التقليدية، فهو كان رئيسا لشبكة تليفزيون بريبارت نيوز، وكانت إزاحته من دائرة النفوذ، تعبيرا عن ميل من ترامب لترجيح كفة فريق آخر من مستشاريه، الذين يركزون بدرجة أكبر على متطلبات السياسة الخارجية، وحتى لا تخسر الولايات المتحدة رصيدا مهما في علاقاتها مع دول في العالم، تحتاج الآن وقوفها معها، في مواجهة التحديات التي تواجهها، وفي مقدمتها الإرهاب.
لكن ما ظهر من تخفيف اللهجة العدائية للنخبة، لم يكن يعني بالضرورة العودة إلى نفس مفاهيمها السياسية، في ما يتعلق بالنظام السياسي الداخلي، وبالسياسة الخارجية، لكنه يعني اتجاها لإيجاد التوازن بين سلوكه في الفترة الأولى، مدفوعا بالغريزة، وبين متطلبات الواقع في العلاقات الدولية. وإذا كان محتملا أن يتخذ بعضا من المبادئ السياسية للنخبة، إلا أنه لا يغيب عنه – في نفس الوقت – أن الغالبية من الناخبين الذين أعطوه أصواتهم، والذين رفعوا شعارات مضادة للنخبة، مازالوا يراقبون أداء ترامب في ما يتعلق بتطبيقه للمبادئ التي أعلنها في حملته الانتخابية.
وربما يكون قد غاب عن توجهات ترامب في المائة يوم الأولى، عنصر «الصبر الاستراتيجي»، وهي صفة غلبت على السياسة الأميركية لعشرات السنين، حيث كانت تنثر النظريات، وتروج لها في العالم عبر وسائل إعلامها، المنتشرة عالميا، وتنتظر إلى أن يظهر مردود هذه النظريات وإمكانات نجاحها، وتقبل دول أخرى في العالم لها، حتى ولو استغرق ذلك سنوات، عندئذ تحولها النخبة من نظريات، إلى سياسات فعلية، على أرض التطبيق. وهو ما شهدناه في بدايات إطلاق نظريات: - التدخل في دول أخرى لأسباب إنسانية (عام 1995) – وأن الشأن الداخلي في دول الشرق الأوسط لم يعد شأنا داخليا (عام2001) – والفوضى الخلاقة (عام2005) – وهكذا.
وقد اعتبر أن غياب الصبر الاستراتيجي هو نتيجة لغلبة الإدارة بالغريزة، وهو ما يبدو أن هذا المسار يتعدل الآن، نتيجة دخول ترامب في الفترة الأولى من حكمه في تجارب خارجية، كان لابد وأن تلقي بتأثيرها عليه سياسياً واستراتيجياً.

بقلم : عاطف الغمري
copy short url   نسخ
26/05/2017
3278