+ A
A -
ما يحزنني أنني ما عدتُ أستطيع أن أقرأ!
تلك جملةٌ موجعة من رجل كانت مهنته القراءة.. والقراءة في أرشيف التاريخ، ليعيد كتابة التاريخ، وفق منهج صارم، من التفرس، والتمحيص، والحياد، والمصداقية.
الجملة قالها دكتور أبوسليم.. وأبوسليم يرحمه الله- كان ذاكرة السودان، وديدبان دار وثائقه المركزية.
كان ذلك، ذات أمسية، والشاي المنعنع، ينعنع تلك الأمسية، وصديقي عثمان كباشي الذي يعمل حاليا في الجزيرة نت، تطعن حلقه عبرة، ودكتور أبوسليم قد قال ما قال، وفي صوته كل أسى وأسف، من لم يعد قادرا- وهو الذي كان- على القراءة! كباشي، قبل أن يهاجر، كان مع ذلكم الرجل الذاكرة، في دائرة الوثائق.. ومن يكن مع أبوسليم، يكن مع الانضباط، والتواضع، والنهم للقراءة، وقراءة ما بين السطور، العمر كله!
المكان، له روحٌ.. كما الزمان..
ودارُ الوثائق المركزية، منذ أن اختطف الموتُ روح (أبوسليم) فقدت روحها.
وأنا في البعيد الآن، بآلاف الأميال الجوية مما هي الآن في قلب الخرطوم، أكاد أراها، قد صارت مجرد جثة.
أحيانا، أنت ترى، مما تسمع.. وقديما قال الشاعر الضرير: «... والأذن تعشقُ قبل العين، أحيانا»!
لئن كان مؤسفا تماما، أن تتطور مشاريع عملاقة في السودان.. تتيبس وتموت، فإنه لمن الأكثر أسفا، أن تموت- أو تكاد- دار الوثائق المركزية.
الزهايمر، مخيف..
لكنه حين يصيبُ ذاكرة الأوطان، يصبح أكثر إخافة، من ذلك الذي يلحسُ ذاكرة الناس!
مرعب أن يفقد الوطن- أي وطن- حاضره.. ولئن كان فقد المستقبل أكثر رعبا، فإن فقد الماضي هو نوع من فقد الجذور.. فقد الأصل... وذلك هو الرعبُ بكل ملامحه البدائية المتوحشة!
إنني لأرثي للأوطان التي كانت، ثم صارت مُنبتة.. والمنبتُ لا أرضا قطع، ولا ظهرا أبقى، كما جاء في الأثر الشريف.
آه يا نور عيني أبوسليم.
آه للذاكرة التي لحسها الموت.

بقلم : هاشم كرار
copy short url   نسخ
24/05/2017
1364