+ A
A -
أن تكتب التاريخ حول بطل، شخص، فرد، وتدع باقي مكونات التاريخ تدور حول هذا البطل، هذه هي عقيدة الكاتب والمؤرخ الإنجليزي «توماس كارلايل» في كتابه الذي ضمنه محاضراته حول هذه الفكرة، ففي المحاضرة الأولى التي وضعها في افتتاحية كتابه الشهير يقول: «في اعتقادي أن التاريخ العام- تاريخ ما احدث الإنسان في هذا العالم - إنما هو تاريخ من ظهر في الدنيا من العظماء، فهم الأئمة وهم المكيفون للأمور وهم الأسوة والقدوة وهم المبدعون لكل ما وفق إليه أهل الدنيا، وكل ما بلغه العالم وكل ما تراه قائما في هذا الوجود كاملا متقنا فاعلم أنه نتيجة أفكار أولئك العظماء» وفق تعريب الكاتب محمد السباعي.
وكان الدافع وراء تأليف ونشر هذه المحاضرات من قبل الكاتب توماس كارلايل هو مواجهة موضة فكرية انتشرت في وقته تتعلق بإنكار الأبطال، أو كراهة وجود الأبطال، فكأنه بهذا العمل يحاول إعادة الاعتبار لصناع التاريخ والذين من وجهة نظره هم الأبطال، والذين وضعهم في عدة صور، افتتح هذه الصور بالبطل في صورة إله: وتحدث في هذه الصورة للبطل أول ما تحدث عن «أودين» الرجل الذي كان يعبده قدماء السويد والنرويج، وهو إذ ينتقد الوثنية في هذه الصورة إلا أنه يحلل وفق منطق فلسفي كيف يتم تحويل الرجل إلى وثن، والدوافع السلوكية والنفسية وراء هذا الفعل، ويستعرض مختلف الآراء التي تناقش أسباب مثل هذه الظهورات الوثنية في مختلف الأمم، ومن تلك الآراء الرأي الذي يقول ان الشعراء هم السبب وراء ظهور الوثنية، أو تأليه البطل الذي ليس له وجود في الأساس، إنما خيال الشعراء يصنعه، ثم يصبغه بتلك الصور المبالغ فيها التي يظهر بها أبطالهم وقصصهم المتخيلة وكأنهم من مستوى آخر متعال عن الطبيعة البشرية، والتي مع توالي الأجيال تنتهي بالتأليه. لكن المؤلف يناقش هذا الرأي أيضا، وينفيه، ويؤكد أن لهؤلاء الأبطال وجودا حقيقيا وأن سر الوثنية إنما هو فرط العجب والاندهاش الذي يأخذ صيرورته إلى تقديس وعبادة البطل وكذلك كان كل شيء في نظر أولئك الأقدمين رمزا إلى شيء إلهي أو إلى إله. هكذا تحول الأمر مع أودين الشمالي، الذي اخترع الأبجدية الاسكندنافية وابتكر الشعر، إلى وضعه كوثن وإله، ولم يتبق منه الآن إلى أصل كلمة يوم الأربعاء: وينزداي «أودين زداي».
بعدها يتحدث المؤلف ويستعرض الصور المختلفة للأبطال، البطل في صورة نبي، واختار الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، مثالا لهذه الصورة، يقول في مقدمة محاضرته في هذه الصورة:«لقد أصبح من أكبر العار على أي فرد متمدن من أبناء هذا العصر أن يصغي إلى ما يظن من ان دين الإسلام كذب، وان محمدا خداع مزور. وآن لنا أن نحارب ما يشاع من مثل هذه الأقوال السخيفة المخجلة فإن الرسالة التي أداها ذلك الرسول ما زالت السراج المنير مدة اثني عشر قرنا لملايين من البشر، أفكان أحدكم يظن أن هذه الرسالة التي عاش بها ومات عليها الملايين الفائتة الحصر والاحصار أكذوبة وخدعة، وعلى ذلك فلسنا نعد محمدا قط رجلا كاذبا متصنعا يتذرع بالحيل والوسائل إلى بغية أو يطمح إلى درجة ملك أو سلطان أو غير ذلك من الحقائر، والصغائر، وما الرسالة التي اداها إلى حق صراح وما كلماته إلا صوت صادق».
ثم يستعرض في إجلال عميق وتقدير بالغ لمظاهر البطولة في شخصية النبي الكريم، وكيف أن هذه الصورة من شخصيته صلى الله عليه وسلم كان لها أبلغ الأثر في تجاوز المصاعب التي اكتنفت دعوته، وكيف صبر وجاهد حتى أظهر الله دينه على الدين كله.
ثم يتحدث عن البطل في صورة شاعر متخذا من «شكسبير» و«دانتي» مثالين ويصفهما بانها اقتربا من مراتب القداسة، ويقول أنهما:«نالا منزلة التقديس والولاية نعم إن شكسبير ودانتي لوليين من أولياء الشعر حرام على كل إنسان أن ينال مقامهما الشريف بأدنى إساءة وهذه نتيجة وصل إليها العالم بالإلهام والفطرة رغما مما قام في طريقهم من ظلمات الجهل والشك وعقبات الجحود» وهو يحلل لماذا يعد الشاعر الكبير بطلا:«ولا احسب الشاعر الكبير إلا أنه جمع في نفسه بين السياسي والمفكر والمشرع والفيلسوف»، ويستمر كعادته يشرح الأسباب التي تدفعه لمثل هذا الاعتبار، ولماذا يصنف الشعراء الكبار كأبطال.
وهكذا الحال مع بقية صور الأبطال التي اختارها هذا الفيلسوف الكبير؛ «البطل في صورة رجل دين»، «البطل في صورة أديب»، «البطل في صورة الحاكم».
ختاما، كتاب الأبطال كتاب يشف تماما عن الفلسفة العميقة التي يتصف بها الفيلسوف الإنجليزي توماس كارلايل، وكيف استطاع بقدرته الأدبية الفائقة تطويع «الفكرة» المجردة عند هيجل في فلسفة التاريخ، وتحويلها إلى معنى من خلال إظهارها في شخوص الأبطال الذين جسدوا الفكرة المستعلية والغالبة والخاصة للأمم.

بقلم : ضيف فهد
copy short url   نسخ
21/05/2017
2636